تفسير آية الكرسي

 

 

تفسير آية الكرسي

الحمد لله الذي أعجز بكتابه الثقلين، وجعل قراءته والعمل به مناط الفوز في الدارين، ورتب على فهمه والعمل به جنة عرضها السماوات والأرضين، وصلى الله على نبينا محمد الذي كان قرآناً يمشي على الأرض آية من رب العالمين، أخرج الناس من ظلمات الحيرة إلى نور الوحي الأمين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن الله تبارك وتعالى فضل بعض الأمكنة على بعض، وبعض الأزمنة على بعض، كما أنه تعالى فضل بعض الأمور على بعض في كثير من الأحوال، ومن ذلك أن فضل بعض كلامه على بعض، مع أنه كله عظيم فاضل لكنه تعالى يختار ما يشاء للأفضلية، ومما ثبت عن النبي   أن آية الكرسي أفضل آية؛ كما سيأتي ذكره، كما أنه تعالى فضل بعض السور على بعض، فقد وردت أن أعظم سورة في القرآن الفاتحة.. وآية الكرسي قد اشتملت على جمل كبيرة في توحيد الله والثناء عليه، وبيان سعة علمه وعظمته عز وجل، فحقيق بآية هذا شأنها أن تكون لها تلك المنزلة وتلك العظمة..

يقول الله تعالى: {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَالْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة: 255].

فضل آية الكرسي وما ورد فيها من أحاديث:

1. أنها أعظم آية في القرآن: عن أُبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي   سأله: ((أي آية في كتاب الله أعظم؟)) قال: الله ورسوله أعلم! فرددها مراراً، ثم قال أُبي: آية الكرسي، قال: ((ليهنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين، تقدس الملِك عند ساق العرش)) رواه الإمام أحمد1،ورواه مسلم2من غير زيادة، والذي نفسي بيده.. إلخ.

2. من قرأها في ليل أو نهار لا يقربه شيطان:

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله   بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله  ! فقال: دعني فإني محتاج وعليَّ عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي  : (ياأبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟) قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك وسيعود) فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله   أنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: (لأرفعنك إلى رسول الله  ، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود. فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله  : (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟) قلت: يا رسول الله! شكا حاجة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك وسيعود) فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله  وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود، فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت:وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحيُّ القيوم} حتى تختم هذه الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله  : (ما فعل أسيرك البارحة؟) قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ماهي؟) قال: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {الله لا إله إلا هو الحيُّ القيوم}، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح -وكانوا أحرص شيءٍ على الخير- فقال النبي  : ((أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟!!)). قلت: لا، قال: ((ذاك شيطان!!)). رواه البخاري3.

3.   فيها اسم الله الأعظم:

عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله   يقول في هاتين الآيتين: {الله لا إله إلا هو الحيُّ القيوم} و{آلم * الله لا إله إلا هو الحيُ القيوم}[آلعمران: 1-2] أن فيهما اسم الله الأعظم)رواه الإمام أحمد4.. وروى ابن مردويه عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله  : (اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورة البقرة وآل عمران، وطه)5 وقال هشام -وهو ابن عمار- خطيب دمشق: أما البقرة فـ {الله لا إله إلا هو الحيُ القيوم} وفي آل عمران {ألم *الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وفي طه {وعنت الوجوه للحي القيوم}.

بيان معاني الآية:

هذه الآية فيها عشر جمل كل جملة مستقلة عن الأخرى من حيث اللفظ:

1. (الله لا إله إلا هو) وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل عليهم السلام، ألا يعبد ولا يعظم ولا يقدس إلا الله تعالى، إن التوحيد لا يعني أن يعرف الإنسان – فقط- أن الله هو الخالق والرازق، والمالك، والمدبر، ويحكم له بالإسلام بدون النظر إلى الأمور الأخرى، وهي العبادة وأنواعها: كالاستغاثة والسجود والركوع، والاستعانة وغيرها، وإلا فإن فهم التوحيد على أنه معرفة أن الله خالق الكون، أو أنه موجود،يقودنا هذا الفهم الخاطئ إلى الإقرار بأن كفار قريش كانوا على الحق؛ لأنهم كانوا يقولون: ربنا الله وخالقنا، وقد قال الله مخاطباً نبيه : {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} فهؤلاء الكفار لم يوحدوا الله في العبادة والاستعانة، والرغبة والرهبة.. بل أشركوا معه غيره من الأصنام والأوثان والأنداد، فلم ينفعهم اعترافهم بأن الله الخالق المدبر الرازق – مع شركهم وكفرهم به-وقد جعلهم الله من أقبح الكفار، ولعنهم وقتلوا وشردوا وأسروا بسبب الشرك الفضيع..

وما يفهمه كثير من أهل البدع من أن مجرد الاعتراف بأن الله موجود أو أنه الخالق- وهم مع كل هذا يعبدون ويطيعون غيره، كدعاء الأموات والطواف على القبور، والركوع لها- فهذا فهم خاطئ تدحضه الآيات القرآنية، والروايات النبوية، والأحداث التاريخية..

والذي يهمنا أن نعرف أن توحيد الربوبية الذي يعني معرفة أن الله هو الخالق والمدبر للكون، لم ينكره إلا قلة من الأمم، وإلا فاليهود والنصارى والمسلمون حتى كفار العرب أيام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون به، ولم ينكره إلا المجوس الذين يزعمون أن للعالم إلهان: إله النور وإله الظلام!! وهذا من حيرة العقول وضلال النفوس… وكذا الشيوعيون في عصرنا.. ولكن بحمد الله دحضت تلك الافتراءات والنظريات البالية وبقي وسيبقى الحق الذي لا يهزم..

وتوحيد الألوهية (لا إله إلا الله) يلزم منه توحيد الربوبية… كما أن توحيد الربوبية يتضمن توحيد الألوهية.

 إن معنى (لا إله إلا هو)  لا معبود ولا مطاع إلا الله، ولا حاكم ولا مشرع ولا آمر ولا ناهي إلا الله، ولا يجوز طاعة المخلوق في معصية الخالق..

والإله: هو المألوه المحبوب الذي يطاع وينقاد له. هذه هي الجملة الأولى والعظمى.

2. (الحي القيوم): أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً القيم لغيره، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ: القيَّام، فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غنيٌ عنها، ولا قوام لها بدون أمره كقوله: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره}6.

وهذان الاسمان اشتملا على من معاني كثيرة ودلالات عظيمة، إن (الحي) معناه الدائم في الحياة الذي لا يموت ولا يفنى سبحانه ليس له ابتداء ولا انتهاء {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد:3]. إنه الحي الذي يجب أن تعنو إليه الوجوه، وترتفع إليه الأيدي {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}{الفرقان: 58}، فجدير بهذا الاسم أن يبلغ مبلغ العظمة؛ لأن العبد إذا عرف أن الله هو الحي وما سواه فانٍ، ودعا الله بهذا الاسم، فإن الحي سيجيب دعوته، ويسد خلته، ويقيل عثرته، ويستر عورته، ويقبل دمعته، ويفرج كربته، وهذا يدلنا على أن الذين يستغيثون بالأموات ويدعونهم كالجيلاني وابن علوان والبدوي وغيرهم من الأموات الذي لا يملكون لأنفسهم موتاً ولا حياةً -فضلاً عن غيرهم- قد ضلوا ضلالاً بعيداً؛ لأنهم تركوا دعاء (الحي القيوم) ودعوا (الأموات!).

“فله جل وعلا حياة حقيقية تليق بجلاله وكماله، وللمخلوق أيضاً حياة مناسبة لحاله؛ وبين حياة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق”7.

و(الحي القيوم) جمعها في غاية المناسبة كما جمعها الله في عدة مواضع في كتابه، وذلك أنهما محتويان على جميع صفات الكمال، فالحي هو كامل الحياة، وذلك يتضمن جميع الصفات الذاتية لله كالعلم، والعزة، والقدرة والإرادة، والعظمة، والكبرياء، وغيرها من صفات الذات المقدسة، والقيوم هو كامل القيومية وله معنيان:

هو الذي قام بنفسه، وعظمت صفاته، واستغنى عن جميع مخلوقاته.

وقامت به الأرض والسماوات وما فيهما من المخلوقات، فهو الذي أوجدها وأمدها وأعدها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها، فهو الغني عنها من كل وجه وهي التي افتقرت إليه من كل وجه،فالحي والقيوم من له صفة كل كمال وهو الفعال لما يريد8.

ما أعظم القيوم! وما أعظم القيام بأمر الكون، وما أعظم الكون! كل شيء يجري بأجل لا يتقدم ولا يتأخر {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[الأنبياء: 33]، وهكذا القيام بشأن المخلوقات من الأنفس المنفوسة وتدبير أمورها وحفظها {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ}[الأنبياء: 42]، {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}[النمل: 62]،وفي هذا الموضوع كلام كثير، وآيات عظيمة لا يتسع المقام لذكرها..

فحقيق باسمين احتويا على معاني جليلة أن يكونا بهذه العظمة، من دعا الله بهما استجاب الله دعوته.

3. (لاتأخذه سنة ولا نوم) أي لا تغلبه غفلة، ولا ذهول عن خلقه، بل هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة – وهي الغفلة أو النعاس- ولا نوم، فقوله: (لاتأخذه) أي لا تغلبه (سنة) وهي الوسن والنعاس، ولهذا قال: (ولا نوم)؛ لأنه أقوى من السِنّة، وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام،يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)9.

فمن تمام حياة الله وقيوميته أنه لا ينام ولا ينعس عز وجل فإن قيام السماء والأرض وما فيهما به، لا إله إلا هو ولا رب سواه..

4. (له ما في السماوات وما في الأرض) أي كل من في السماء والأرض من الكائنات جميعاً ملك له، وتحت قهره وأمره وقدره عز وجل يقول للشيء (كن فيكون).

5. (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وهذا من كمال قهره وسلطانه؛ فإنه لا يجترئ أحدعلى نفع أحد يوم القيامة ولا يشفع له! إلا بإذن من الله، كما قال سبحانه: {وَلَايَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء: 28]، وقال: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}[النجم: 26]، وذلك أن في ذلك اليوم تنقطع اللسان عن الكلام، ولا يكون التصرف والأمر إلا لله تعالى.. فلا بد من إذنه بالشفاعة ورضاه عن المشفوع، ومن هنا أخذ العلماء شروط الشفاعة حيث قالوا: الشفاعة لا تحصل لأحد إلا بشروط وهي:

رضا الله عن المشفوع.

رضاه عن الشافع.

إذن الله للشافع أن يشفع.

أما الشرطين الأوليين فيدل عليهما قوله تعالى: {.. إِلَّامِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] قوله: {ويرضى} فإنه تعالى يرضى للشهيد أن يشفع في سبعين من أهل بيته، ويرضى عن المشفوع لهم.. ويدل على الشرط الثالث: قوله: {أن يأذن الله} وقوله هنا في آية الكرسي: {إلا بإذنه}،والله أعلم.

6. (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) وهذه هي الإحاطة الشاملة، والقدرة الكاملة على كل شيء، وعِلْمُ الأمور بكلياتها وأجزائها، وقوله: (ما بين أيديهم)، الحاضر والمستقبل و(ما خلفهم) الماضي، فقد أحاط بالأزمنة والأمكنة كلها علماً، ولهذا قال: {أَلَايَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}سبحانه وتعالى.

7. (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) أي لا يحيط أحد بشيء من علم الله تعالى، ولا يمكن أن يحيط به، والإحاطة تعني استغراق علم المعلومات كلها بجزئياتها وكلياتها، وإذا كان الله قد قال: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}فكيف يقدر أحد أن يحيط بذلك العلم الكبير، وذلك السر الكوني الرهيب، الذي لا يطلعه الله إلا لمن شاء من رسول، وبأي وقت شاء ذلك؛ كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}[الجن: 26-27]، والغيب هم من علم الله الشامل، فمن شاء الله فتح عليه من العلوم والفهم والإطلاع والإدراك، ومن شاء منع عنه ذلك، كل ذلك لحكم عظيمة وغايات جليلة.

وما يتبجح به علماء الغرب اليوم من غزو الفضاء، واكتشاف بعض الأمور التي هي ظاهرة، إنما غاية الأمر أنهم رأوها أو صعدوا إلى سطح كوكب من كواكب السماء بعد مشقة وعناء طويل، وإهدار وقت ثمين، وأموال هائلة، وكل ذلك قليل من قليل من علم الله الكبير.. وهم يعترفون بذلك، حيث يرون فساحة الكون وعظمته وملايين النجوم والكواكب وهم لم يصلوا بعد إلا إلى كوكب أو كوكبين!! فسبحان الله العلي العظيم..

8. (وسع كرسيه السماوات والأرض) اختلف العلماء – من أهل السنة- في معنى الكرسي هنا:

ورد عن ابن عباس أن معنى الكرسي: علم الله تعالى ورجحه الطبري قال: ومنه الكُرَّاسة، التي تضم العلم، ومنه قيل للعلماء: الكراسيّ؛ لأنهم المعتمد عليهم كما يقال: أوتاد الأرض.

وقال جمع من العلماء وهو الذي عليه الأكثر:- إن المقصود بذلك كرسي حقيقي لله تعالى، وقد ورد في بعض الآثار أنه موضع قدمي الله تعالى، وهو بجانب العرش، كحلقة ملقاة في فلاة الأرض.. وقد وردت آثار في صفة الكرسي ونسبته للكون، ونسبته للعرش لا داعي لذكرها هنا.. لضعف كثير منها، والله أعلم. وهذا الكرسي يليق بجلال الله تعالى وعظمته، وأرباب الإلحاد يحملونها على عظم الملك وجلالة السلطان، وينكرون وجود العرش والكرسي وليس بشيء؛ كما قال القرطبي..

ومعنى الآية على القول المشهور: أن الكرسي سعته أعظم من السماء والأرض؛ كما جاء في الأثر أن السماوات والأرض بالنسبة للعرش إنما هي كسبع حلقات ملقاة في ترس. وطريقة السلف في ذلك أن تمر كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه.

9. (ولا يؤوده حفظهما) أي لا يثقله حفظ السماوات والأرض، وما فيهن من مختلف المخلوقات، بل ذلك سهل عليه كما قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[الحـج: 70].

وفيها إشارة إلى ما تقدم من أن الآية هذه تقي العبد من شرور الشياطين، فإذا كان الله لا يثقله حفظ الكون وما فيه، فإنه قادر على حفظ العبد المؤمن الذي تذكر هذا المعنى العظيم بقراءته هذه الآية، وتفكره بها واعتقاده بحفظ الله له..

10 – (وهو العليُ العظيم) (العلي) بذاته على عرشه، فوق جميع مخلوقاته، وهو مع هذا العلو لا يخفى عليه شيء من أمرهم، وعليٌ بقهره، وسلطانه، ومشيئته عز وجل فلا راد لأمره ولا معقب لحكمة، ولا متحكم على قدره فله الحكم والأمر تبارك الله رب العالمين. وعليٌ علو قَدْر ومنزلة فله الأسماء الحسنى والصفات العلى.

فهذه ثلاثة أنواع للعلو: علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدْر،وكلها يدل عليها أدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله   فأما علو الذات فقد قال الله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه: 5] وقال الرسول  كما في حديث الجارية- للجارية: (أين الله؟) قالت: في السماء، فقال لسيدها: (اعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم10. ومعنى علو الذات: أن الله تعالى فوق جميع مخلوقاته مستوٍ على العرش استواءً يليق بجلاله وعظمته ولا يجوز أن نشبه الله بخلقه في الكيفية لأنه{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى: 11]. ودليل علو القهر: قوله تعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}[الأنعام:18] فقد قهرهم بتصرفه فيهم كيف يشاء لا يخرجون عن قهره وقبضته. ودليل علو القدر: قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف:180] فإن أسماء الله تعالى في غاية الحسن، ولذا فمن عرف أسماء الله وفهمها حق الفهم كان ممن قدر الله حق تقديره.. وقد عاب الله على المشركين عدم تقديرهم له حيث قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}[الأنعام:91] الآية. فهذه أنواع العلو الثلاثة مع أدلتها.(والعظيم)أي عظم شأنه وخطره11.

وبعد الانتهاء من تفسير الآية وذكر فضلها لا يسعنا إلا أن نوجه النصيحة لإخواننا بالتفكر في معاني هذه الآية العظيمة؛ وقراءتها في الليل والنهار، كما جاءت بذلك الأحاديثوالآثار، حتى يحفظ الله العبد من الشياطين، ويفوز يوم القيامة..

أسأل الله أن ينفعنا بما قلنا، وكتبنا، وسمعنا، وقرأنا, إنه قريب مجيب… والله أعلم.


1 المسند (21278)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.

2 صحيح مسلم (810).

3 صحيح البخاري (2187).

4 المسند (27610)، وقال محققوه: إسناده ضعيف لضعف عبيد الله بن أبي زياد وشهر بن حوشب.

5 المعجم الكبير (7941)، وابن ماجة (3856)، وحسنه الألباني.

6 ذكره ابن كثير في تفسيره (1/291). ط/ دار الحديث القاهرة.

7 أضواء البيان (2/ 21).

8 شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة (ص: 81).

9 تفسير ابن كثير (1/291-292). والحديث رواه مسلم.

10 صحيح مسلم (537).

11 ذكره الشوكاني في تفسيره (1/345). ط/ المكتبة العصرية.