خير الخطائين التوابون

خير الخطائين التوابون

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الحياة دار متاع وغرور وهي اختبار وامتحان وابتلاء، فإذا جاوز الإنسان حياته الدنيا وهو يسير في رضوان الله فقد فاز، لكنه مع ذلك معرض للخطأ والتقصير في جنب الله – تعالى -، وهذه سنة الله في بني آدم:

من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط

لذا جعل الله – سبحانه – من العبادات التي يحبها، ويرضى عن صاحبها؛ عبادة الاستغفار، فهو يحب العبد الأواب التواب، الرجَّاع إليه في كل حين، الذي إذا وقع في ذنب أقلع وتاب، واستغفر الله منه كما في قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].

إن وقوع الذنوب من الإنسان أمر لا مفر منه، وهذه ليست مشكلة في حد ذاتها؛ إنما المشكلة والمصيبة هي الاستمرار في الخطأ، والإصرار على المعاصي قال الإمام الغزاليّ: “اعلم أنّ الصّغيرة تكبر بأسباب فيها: الإصرار، والمواظبة: وكذلك قيل: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار”1، فكيف إذا كان الإصرار على الكبائر، وعدم التوبة منها؟!

لقد وعد الله المستغفرين التائبين بالمغفرة والثواب العظيم فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135-136]، وجاء في الحديث عن أبي هريرة  أن النبي  قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ2.

وقد وضح النبي  أن كل الناس يخطئون، وأن خيرهم من يتوب إلى الله، ويرجع إليه كلما حصل منه خطأ كما في حديث أنس  أن النبي  قال: كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون3، وليس المقصود من هذا أن يقحم الإنسان نفسه في الخطأ إقحاماً، ويرتكب المنكرات ثم يقول: كلنا أصحاب خطأ، وسنتوب! فيسوِّف هذا المسكين في التوبة، وربما اخترمه الموت وهو على حاله السيئ! – عياذاً بالله -.

فرقٌ بين من هو غريق في الذنوب لغفلة وطغيان، ثم يفيق منها ويستغفر، وبين من يصر على الذنوب والمعاصي وهو يعلم حرمتها، وهو مع ذلك يتساهل في الاستمرار عليها، ولا يعجل بالتوبة، ولهذا جاء في الآية السابقة قول الله تعالى: فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فجمع بين أمرين مهمين هنا وهما: سرعة الإفاقة من الذنب، وسرعة الاستغفار قبل فوات الأوان، ويدل عليه الإتيان بالفاء فَاسْتَغْفَرُواْ وهي تفيد الترتيب والتعقيب يعني حصول الاستغفار مباشرة عقب الذنب، فلم يحصل من الشخص تمادٍ وإصرار، الأمر الثاني: قوله: وَلَمْ يُصِرُّواْ أي تابوا سريعاً، ولم يتمادوا في الذنب، والإصرار على الصغائر من غير توبة أمر خطير قد يوصلها إلى كبائر الذنوب، فكيف بالإصرار على الكبائر؟ ولهذا جاء عن ابن عباس أنه قال: “لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار”.4

بل إن الله  يفرح بتوبة عبده، ورجوعه إليه، واعترافه بذنبه؛ كما جاء في حديث أنس بن مالك  أن النبي  قال: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ! أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ5.

الكلام حول موضوع الخطايا والتوبة منها يطول، وحسبنا ما ذكرنا.. وعلى أي حال فإن الإنسان خلق ليعبد الله – تعالى – وهو معرض للأخطاء والمعاصي، ولكن الله يحب العبد الذي يتوب إليه كثيراً، ويستغفره كثيراً، وهذا هو ما كان يفعله نبينا المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، حيث ثبت أنه كان يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، وربما وصل إلى المائة مرة.

والله الهادي والموفق إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.


1 إحياء علوم الدين (4 /32).

2 رواه مسلم (13 /301).

3 رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما.. قال الألباني: حسن، كما في صحيح ابن ماجه (3428).

4 الآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 167).

5 رواه مسلم (13 /296).