أعطوا الطريق حقه!
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد أوجب الإسلام حفظ الحقوق العامة والخاصة، وحث على التمسك بالآداب الرفيعة، ومن هذه الحقوق والآداب التي حث عليها الإسلام حق الطريق وآدابه، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والجلوس في الطرقات)) فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه)). قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، ولأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))1.
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في الطرقات، لما في ذلك من المفاسد والمخاطر التي تعود على الجالسين، وعلى المارين.
ومن ذلك: "التعرض للفتن بخطور النساء الشواب، وخوف ما يلحق من النظر إليهن من ذلك إذ لم يمنع النساء من المرور في الشوارع لحوائجهن، ومن التعرض لحقوق الله وللمسلمين مما لا يلزم الإنسان إذا كان في بيته وحيث لا ينفرد أو يشتغل بما يلزمه ومن رؤية المناكير وتعطيل المعارف، فيجب على المسلم الأمر والنهي عند ذلك، فإن ترك ذلك فقد تعرض للمعصية، وكذا يتعرض لمن يمر عليه ويسلم عليه، فإنه ربما كثر ذلك فيعجز عن الرد على كل مار، ورده فرض فيأثم، والمرء مأمور بأن لا يتعرض للفتن وإلزام نفسه ما لعله لا يقوى عليه، فندبهم الشارع إلى ترك الجلوس حسما للمادة، فلما ذكروا له ضرورتهم إلى ذلك لما فيه من المصالح من تعاهد بعضهم بعضا ومذاكرتهم في أمور الدين ومصالح الدنيا وترويح النفوس بالمحادثة في المباح دلهم على ما يزيل المفسدة من الأمور المذكورة"2.
فإذا كان لابد للإنسان من الجلوس على الطرقات؛ فإن عليه أن يراعي آداباً حثه عليها الإسلام، وحقوقاً أوجب عليه مراعاتها والقيام بها، ومنها ما يلي:
1. غض البصر؛ وذلك أنّ الطرقات من الأماكن العامة التي يكثر فيها مرور النساء، ووقوع المخالفات الشرعية؛ ولذلك لابد من غض البصر؛ لقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ..}[النور: 30] وقال سبحانه: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}[النور: 31].
2. كف الأذى، والمراد بكف الأذى عن المارة بأن لا يجلس حيث يضيق عليهم الطريق، أو على باب منزل من يتأذى بجلوسه عليه، أو حيث يكشف عياله، أو ما يريد التستر به من حاله. قال النووي: "ويدخل في كف الأذى اجتناب الغيبة وظن السوء واحقار بعض المارين، وتضييق الطريق، وكذا إذا كان القاعدون ممن يهابهم المارون أو يخافون منهم ويمتنعون من المرور في أشغالهم بسبب ذلك لكونهم لا يجدون طريقا إلا ذلك الموضع"3.
3. رد السلام؛ لما جاء في حديث أبي سعيد السابق، وذلك أن رد السلام واجب بإجماع العلماء؛ كما قال النووي: "وأما رد السلام فهو فرض بالإجماع؛ فإن كان السلام على واحد كان الرد فرض عين عليه، وإن كان على جماعة كان فرض كفاية في حقهم إذا رد أحدهم سقط الحرج عن الباقين"4.
4. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لما جاء في حديث أبي سعيد السابق الذكر. وقد جاءت أحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ منها حديث أبي ذر رضي الله عنه: (وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة)5.
5. حسن الكلام؛ لما جاء في حديث أبي طلحة زيادة: (وحسن الكلام)6، قال عياض: فيه ندب إلى حسن معاملة المسلمين بعضهم لبعض؛ فإن الجالس على الطريق يمر به العدد الكثير من الناس فربما سألوه عن بعض شأنهم ووجه طرقهم فيجب أن يتلقاهم بالجميل من الكلام ولا يتلقاهم بالضجر وخشونة اللفظ، وهو من جملة كف الأذى. وجاء في حديث أبي مالك الأشعري رفعه: (إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام)7. وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم رفعه: (اتقوا النار ولو بشق تمرة؛ فمن لم يجد فبكلمة طيبة)8.
6. إرشاد السبيل، لما رواه الترمذي وصححه ابن حبان عن أبي ذر مرفوعا: (وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة)9. وللبخاري في الأدب المفرد والترمذي وصححه من حديث البراء رفعه: (من منح منيحة أو هدى زقاقا أو قال طريقا كان له عدل عتاق نسمة)10. والمراد: من دل الذي لا يعرفه عليه إذا احتاج إلى دخوله. وفي حديث أبي ذر عند ابن حبان: (إن أبواب الخير لكثيرة: التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق، وتسمع الأصم، وتهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك)11.
7. تشميت العاطس إذا حمد الله؛ لما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأفنية والصعدات أن يجلس فيها، فقال المسلمون: لا نستطيعه، لا نطيقه، قال: إما لا فأعطوا حقها، قالوا: وما حقها؟ قال: غض البصر، وإرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس إذا حمد الله، ورد التحية)12.
8. إغاثة الملهوف، لحديث عمر عند أبي داود: (وتغيثوا الملهوف، وتهدوا الضال)13، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى وفيه: (ويعين ذا الحاجة الملهوف)14. وفي حديث أبي ذر عند ابن حبان: (وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث)15.
9. إفشاء السلام؛ لحديث البراء رضي الله عنه عند أحمد والترمذي: (فأفشوا السلام، وأعينوا المظلوم، واهدوا السبيل)16. وقد جاءت أحاديث كثيرة في إفشاء السلام، ومنها: (أفشوا السلام بينكم)17. قال النووي رحمه الله: "والسلام أول أسباب التآلف ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض، وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل، مع ما فيه من رياضة النفس، ولزوم التواضع، وإعظام حرمات المسلمين"18.
10. المعونة على رفع الحمولة؛ لحديث ابن عباس عند البزار: (وأعينوا على الحمولة)19. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: (كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس قال تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة …)20.
11. نصرة المظلوم؛ لحديث وحشي بن حرب عند الطبراني: (وأهدوا الأعمى وأعينوا المظلوم)21. وسواء كان هذا الظلم واقعاً من الفاعل أول المفعول؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما). فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: (تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره)22.
12. ذكر الله؛ لحديث سهل بن حنيف عند الطبراني: (ذكر الله كثيراً)23.
فهذه من الحقوق التي ينبغي للمسلم إذا جلس في طريق أو مر بقوم أن يؤديها، ومنها ما هو واجب ومنها المستحب، كما سبق أن ذكر، والله نسأل أن يوفقنا لطاعته وأن يجنبنا معصيته.
1 رواه البخاري (2333)، ومسلم (2121).
2 راجع: فتح الباري (11/12).
3 شرح النووي على صحيح مسلم (14/102).
4 المصدر السابق (14/32).
5 رواه مسلم (720).
6 رواه مسلم (2161).
7 رواه أحمد (22905)، وحسنه الألباني.
8 رواه البخاري (5677).
9 سنن الترمذي (1956)، وصحيح ابن حبان (529).
10 الأدب المفرد (890)، وسنن الترمذي (1957)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (898).
11 صحيح ابن حبان (3377)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2970).
12 رواه البخاري في الأدب المفرد (1014) والحاكم في المستدرك (7688)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني.
13 سنن أبي داود (4817)، وصححه الألباني.
14 صحيح البخاري (1376)، ومسلم (1008).
15 صحيح ابن حبان (3377)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2970).
16 المسند (18483)، وسنن الترمذي (2726).
17 رواه مسلم (54).
18 شرح النووي على مسلم (2/36).
19 مسند البزار (5232).
20 رواه البخاري (2827)، ومسلم (1009) واللفظ له.
21 المعجم الكبير (18218).
22 رواه البخاري (6552).
23 المعجم الكبير (5592).