كيف النجاة من الفتن؟

كيف النجاة من الفتن

كيف النجاة من الفتن؟

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

عباد الله: إن الفتن قد تنوعت في هذا العصر وكثرت: فمنها فتن العقائد، ومنها فتن المفاهيم والأهواء والأفكار، ومنها فتنة المال والدنيا، ومنها فتن الفرقة والخلاف، ومنها تسلط أعداء الإسلام على أمة الإسلام.  فالمرء المسلم معرض لفتن الشهوات والشبهات.

ومن الفتن التي فتحت على الناس الآن، ما تبثه وسائل الاتصال الحديثة من أنواع الفساد العقدي والأخلاقي والثقافي.

حتى صار حال المسلم كما قال القائل:

فإن تنجو منها تنجو من ذي عظيمة *** وإلا فإنـي لا أخـالك ناجيـا

وكما قيل: لا تسل عمن هلك كيف هلك، ولكن سل من نجا كيف نجا. وذلك لكثرة الهالكين والساقطين في الفتن. والله يقول: {الم  *  أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(1-3) سورة العنكبوت. ومن الفتن فتنة الرجل في أهله وماله وولده، وهي من الفتن التي تُكفَر بالصلاة والصوم والزكاة، وثبت أن عمر -رضي الله عنه- أنه سأل عن الفتنة، فقال له حذيفة: أنا أعلم، فسأله فقال: فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة؛ يعني ما يحصل للإنسان بينه وبين أهله من الكلام الذي قد يزل فيه، وبينه وبين جاره، وبينه وبين ولده؛ فهذه تكفرها الصلاة والصوم، هذه صغائر، فقال عمر: أريد الفتنة التي تموج كموج البحر. فقال: إن بينك وبينها يا أمير المؤمنين بابا فقال عمر – رضي الله عنه- أيغلق الباب أم يكسر؟ فقال: بل يكسر. قال: إن ذلك. أشد، والباب هو قتل عمر، فإنه لما قتل عمر صار هذا كسر للباب، وهي فتن حروب، ثم بعد ذلك لما قتل عثمان -رضي الله عنه- انفتحت أبواب الفتن. ومن أعظم الفتن عباد الله الشرك كما قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}(39) سورة الأنفال. أي حتى لا يكون شرك. وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(217) سورة البقرة. وقال – جل وعلا -: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}(15) سورة التغابن. يعني اختباراً وامتحاناً حتى يتبين من يستعين بالأموال والأولاد في طاعة الله، ومن يقوم بحق الله ويتجنب محارم الله، ويقف عند حدود الله ممن ينحرف عن ذلك ويتبع هواه. وتقع أيضاً على المصائب والعقوبات كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}(25) سورة الأنفال. يعني : بل تعم.

وجاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حذر الناس، وقال: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ)1 وجاء في بعض الأحاديث أنها: (تعرض عليكم كأعواد الحصير عوداً عوداً)2. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم. يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً . أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً . يبيع دينه بعرض من الدنيا)3 ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: (إنها ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، من يستشرف لها تستشرفه، فمن استطاع أن يعوذ بملجأ أو معاذ فليفعل)4 ولخطورة الفتن فقد كان عليه الصلاة والسلام -وهو أفضل هذه الأمة، وأخشاها لله وأقواها إيماناً- يكثر من سؤال الله الثبات على دينه، كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: كان رسول الله يكثر من قول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)5.  ومن يأمن الضياع، ومن يأمن ألا يسقط في الفتن ويخوض في غمارها بعد رسول الله – صلى عليه وسلم -؟!

عباد الله: إن الخروج من الفتن يتطلب أسباباً جادة يجب على المسلم أن يسلكها حتى ينجو بدينه، ومن هذه الأسباب:

1- الهروب من الفتن وعدم الولوج فيها بأن لا يتعرض المسلم لها وخاصة عند خفاء الأمر: يبتعد المسلم عن أسبابها وعن الأسباب الموصلة إليها، وعدم الاغترار بالنفس، إن المؤمن الصادق المتواضع الذي يخاف على نفسه، ومن خاف نجا، ومن أمن هلك.

فإذا رأيت فتنة مال أو نساء أو غيرها من الفتن فابتعد، وإياك ومواطن الفتن والريب، حتى لا يصيبك منها شيء، وقد علمنا سلفنا هذا المنهج فكانوا يخافون منها، فهذا ابن أبي مليكة يقول: ” أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كلهم يخشى النفاق على نفسه” أ.هـ ، وهذا أبو هريرة – رضي الله عنه – يقول: تكون فتنة لا ينجي منها إلا دعاء كدعاء الغرق” أ.هـ، أي الذي بلغ منه الخوف والوجل كخوف الذي أوشك على الغرق. فهذه الفتن هي الفتن التي لا يظهر وجهها، ولا يعلم طريق الحق فيها، بل هي ملتبسة، فهذه يجتنبها المؤمن، ويبتعد عنها بأي ملجأ، ويؤيد هذا ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الفتن والقعود عنها حيث قال: (إنها ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، من يستشرف لها تستشرفه، فمن استطاع أن يعوذ بملجأ أو معاذ فليفعل)6 ومن هذا الباب قوله – صلى الله عليه وسلم -: (يوشك أن يكون خير مال المرء المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن).7

2- التمسك بكتاب الله وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام:

الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- كما روي ذلك عن علي مرفوعاً: (تكون فتن). قيل: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: (كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم….)8 الحديث.

والمقصود أن الفتن فتن الشهوات والشبهات والقتال وفتن البدع وكل أنواع الفتن – لا تخلص منها ولا النجاة منها إلا بالتفقه في كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة – رضي الله عنهم – ومن سلك سبيلهم من أئمة الإسلام ودعاة الهدى .

3- الرجوع إلى العلماء الربانيين المعتبرين هو ضمانة من ضمانات البعد عن المحن والفتن، وكذلك لزوم جماعة المسلمين وإمامهم.. وذلك بالرجوع إلى أهل السنة وعلماء السنة الذين حصل لهم الفقه في كتاب الله – عز وجل – والفقه بسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ودرسوهما غاية الدراسة، وعرفوا أحكامهما وساروا عليهما.

4- ومن أسباب النجاة من الفتن إعلاء راية الدعوة إلى الله فإنها وظيفة الأنبياء والمرسلين والدعاة والمصلحين في كل زمان ومكان على علم ومنهج صحيح وبصيرة.

5- وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحقيق الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية، والحذر من الفرقة والاختلاف. لأن الله بعث نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – بالهدى ودين الحق، فبلغ المصطفى رسالة ربه، وفتح الله به قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وأعيناً عمياً، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك وحمل لواء الدعوة بعده صحابته الكرام رضوان الله عليهم فبلغوا سنة الله، ونشروا رسالة نبي الله – صلى عليه وسلم – ووصلت فتوحاتهم المشارق والمغارب.

اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

من أسباب النجاة من الفتن:

6- الدعاء: جاء في صحيح مسلم عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)9. وعلمنا – صلى الله عليه وسلم – أن نتعوذ في دبر كل صلاة من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.

 7- العلم: والعلم الذي نقصده ونعنيه هو: العلم الشرعي؛ فالعلماء: هم قادة الأمة الذين يقودونها إلى بر الأمان، الذين يعلمون ما أنزل الله في كتابه وما جاء عن رسوله؛ فيبلغونه للأمة لكي تنجو من الفتن وتسلم في أوقات المحن.

8 – معرفة سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وسيرة صحابته.

وكيف واجهوا الفتن وتعاملوا معها، فعليك بطريقتهم ومنهجهم وسلوكهم، ففيه النجاة  {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}(90) سورة الأنعام.

9 – العبادة والطاعة والعمل الصالح:

أيضاً من الطرق التي يخرج بها من الفتن العبادة في وقت الفتن، فإذا كثرت الفتن يقبل الإنسان على العبادة، جاء في صحيح مسلم عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (العبادة في الهرج – وفي رواية – في الفتنة كهجرة إلي)10. يعني بذلك أن لها ميزة وفضلا وأجرا عظيما في أوقات الفتن. يقول الحافظ ابن رجب – رحمه الله – معلقاً على هذا الحديث:  “وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهاً بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه، ويعبد ربه، ويتبع مراضيه، ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مؤمناً به، متبعاً لأوامره مجتنباً لنواهيه “أ.هـ. ونبينا الكريم – صلى الله عليه وسلم – كان إذا حزبه أمر هرع وفزع إلى الصلاة.

10 – تربية النفس على الإيمان بالله واليوم الآخر: فبالإيمان بالله: يحصل تعظيمه وتعظيم أمره ومراقبته في السر والعلن، بالإيمان بالله يغرس في القلوب محبته ومرضاته وتقديمها على كل المحاب، بالإيمان بالله يتعرف على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى فيظهر أثرها على السلوك والأخلاق ويظهر قوة الإيمان بها وقت الفتن والشدائد . والإيمان باليوم الآخر واليقين الجازم بما أعد الله في ذلك اليوم للمحسنين وما أعد للمسيئين تحصل العصمة بإذن الله من المغريات والشهوات التي هي ظل زائل ولا يعرف حقيقة الدنيا إلا من عرف حقيقة الآخرة وما أعد الله للمؤمنين، يقول جل وعلا: (فأما من طغى*وآثر الحياة الدنيا* فإن الجحيم هي المأوى*وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى) ويحصل اليقين بكثرة قراءة كتاب الله بتدبر وتمعن. وجاء في الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: (إن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها؛ فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأتيه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذين يحب أن يأتوه إليه)11  أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

 11- العمل بالعلم والدعوة إلى الله:

إن العامل بدين الله الذي يبلغه وينشره الذي يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر هو من أبعدهم عن الوقوع في الفتن، الذي ينصح للمسلمين ويدلهم على كل خير هو أكثر الناس بعداً عن الوقوع في الخلل والزلل، وأكثر الناس توفيقاً وهداية وسداداً، يقول الله – جل وعلا -: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا*وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا*وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}(66- 68) سورة النساء.

فحصل لمن عمل بما يوعظ به: الخيرية و الثبات والأجر العظيم والهداية للصراط المستقيم .

وقانا اللَّه تعالى الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجنبنا ويلاتها، آمين.

نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الثبات على دينه والاستقامة عليه، ونسأله -سبحانه- أن يعيذنا وإياكم من مضلات الفتن، وأن يجعلنا من المتقين الذين يقولون النصائح والمواعظ، ويستفيدون ويعملون ويطبقون، ويقولون: سمعنا وأطعنا، إنه ولي ذلك وهو القادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.


 


1 – صحيح البخاري – (ج 6 / ص 435 – 1745) وصحيح مسلم – (ج 14 / ص 57 – 5135)

2 – صحيح مسلم – (ج 1 / ص 349 – 207)

3 – صحيح مسلم – (ج 1 / ص 297 – 169)

4 – صحيح البخاري – (ج 11 / ص 435 – 3334) وصحيح مسلم – (ج 14 / ص 58 – 5136)

5 – سنن الترمذي – (ج 8 / ص 29 – 2066) ومسند أحمد – (ج 24 / ص 210 – 11664) تحقيق الألباني: ( صحيح ) انظر حديث رقم : 4801 في صحيح الجامع .

6 – صحيح البخاري – (ج 11 / ص 435 – 3334) وصحيح مسلم – (ج 14 / ص 58 – 5136)

7 – صحيح البخاري – (ج 1 / ص 31 – 18)

8 – سنن الترمذي – (ج 10 / ص 147 – 2831) تحقيق الألباني: ضعيف، المشكاة ( 2138).

9 – صحيح مسلم – (ج 14 / ص 28 – 5112)

10 – صحيح مسلم – (ج 14 / ص 187 – 5242)

11 – سنن النسائي – (ج 13 / ص 91 – 4120) وسنن ابن ماجه – (ج 11 / ص 449 – 3946) ومسند أحمد – (ج 13 / ص 252 – 6214) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 241 ).