صلاة المسافر

صلاة المسافر

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أمَّا بعدُ:

فإن المسافر من أهل الأعذار، ويُشرع له أن يقصر الصلاة الرباعية، من أربع ركعات إلى ركعتين؛ وهذه صدقة من الله تصدق بها على عبادة، فينبغي على المسلم أن يقبل ما أعطاه الله، وإن الله سبحانه هو الحكيم في كل شيء، وهو الذي يعلم ما يصلحنا وما يفسدنا، فما يشرع لنا إلا ما فيه خير لنا في ديننا ودنينا، وما ينهانا عن شيء إلا فيه مضرة علينا, فله الحمد سبحانه على كلِّ شيء.

مشروعيَّةُ قَصْرِ الصَّلَاةِ:

القصر جائز بالقرآن والسنة، والإجماع:

أما القرآن: فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا}[النساء: 101]، والقصر جائز سواء في حالة الخوف أم الأمن، فعن يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب: ما لنا نقصر وقد أمنا؟ فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته))1.

أما السنة: فقد تواترت الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر في أسفاره حاجاً ومعتمراً أو غازياً محارباً، وقال ابن عمر: (صحبت النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك)2.

أما الإجماع: فقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن لمن سافر سفراً تقصر في مثله الصلاة مثل: حج أو جهاد أو عمرة أن يقصر الظهر والعصر والعشاء، يصلي كل واحدة منها ركعتين ركعتين"3.

حكم القصر:

اختلف العلماء في حكم القصر في السفر على ثلاثة أقوال:

1-      أنه واجب, وهو قول الحنفية والشوكاني والألباني ونصره ابن حزم. قال الخطابي: كان أكثر مذهب علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن القصر هو الواجب في السفر. وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة. وقال حماد بن أبي سليمان: يُعيد من صلى في السفر أربعاً. وقال مالك بن أنس: يُعيد ما دام في الوقت.

2-      أنه سنة وهو مذهب الشافعية والحنابلة وابن عبد البر. قال النووي الشافعي: وبهذا قال عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وآخرون … وهو مذهب أكثر العلماء4.

3-      أنه سنة مؤكدة ومن أتم فقد فعل مكروهاً وهو قول مالك وقول في مذهب أحمد واختيار شيخ الإسلام, ومن المعاصرين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله5.

مَسَافَةُ القَصْرِ:

الجمهور من أهل العلم على أن مسافة السفر التي تُقصر فيها الصلاة أربعة برد، والبريد مسيرة نصف يوم, وهو أربعة فراسخ, والفرسخ ثلاثة أميال، والميل المعروف ألف وستمائة متر، فتكون الأربعة برد = 76.8 كيلو تقريبًا6، وقيل: 80.64 كيلو، وقيل: 72كم، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: والميل المعروف = كيلو وستمائة متر7، وقال أيضاً: (والصحيح: أنه لا حدَّ للسفر بالمسافة؛ لأن التحديد كما قال صاحب المغني: «يحتاج إلى توقيف، وليس لما صار إليه المحددون حجة، وأقوال الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حجة فيها مع الاختلاف، ولأن التقدير مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولظاهر القرآن، ولأن التقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإِجماع على خلافه». اهـ. والتوقيف معناه الاقتصار على النص من الشارع، والله يعلم أن المسلمين يسافرون في الليل والنهار ولم يرد حرف واحد يقول: إن تحديد السفر مسافته كذا وكذا، ولم يتكلم أحد من الصحابة بطلب التحديد في السفر، مع أنهم في الأشياء المجملة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن تفسيرها وبيانها، فلما لم يسألوا علم أن الأمر عندهم واضح، وأن هذا معنى لغوي يرجع فيه إلى ما تقتضيه اللغة، وإذا كان كذلك ننظر هل للسفر حد في اللغة العربية؟ ففي مقاييس اللغة لابن فارس: ما يدل على أنه مفارقة مكان السكنى.

وإذا كان لم يُروَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم تقييد السفر بالمسافة، وليس هناك حقيقة لغوية تقيده كان المرجع فيه إلى العُرْفِ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك, قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلَّى ركعتين. ومعلوم أن ثلاثة فراسخ نسبتها إلى ستة عشر فرسخاً يسيرة جداً.

فالصحيح أنه لا حد للمسافة، وإنما يُرجع في ذلك إلى العرف)8.

الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر:

يبدأ القصر بخروج المسافر من عامر بلده، قال ابن المنذر رحمه الله: "وأجمعوا على أن للذي يريد السفر أن يقصر الصلاة إذا خرج عن جميع البيوت من القرية التي خرج منها"9، وهذا مذهب جمهور أهل العلم أن المسافر إذا أراد سفرًا تقصر في مثله الصلاة لا يقصر حتى يفارق جميع البيوت10، قال أنس رضي الله عنه: "صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة ركعتين"، وفي لفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين"11.

مدة السفر التي تقصر فيها الصلاة:

قال ابن المنذر رحمه الله: "وأجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم على أن لمن سافر سفرًا يقصر في مثله الصلاة وكان سفره في حج أو عمرة، أو غزو أن له أن يقصر مادام مسافرًا)12 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين، قلت: كم أقام بمكة13؟ قال: عشرًا)14.

وقال ابن قدامة رحمه الله: "وجملة ذلك أن من لم يُجمع إقامة مدة تزيد على إحدى وعشرين صلاة فله القصر ولو أقام سنين"15.

أما إذا نوى الإقامة في بلد أكثر من أربعة أيام؛ فإنه يتم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في حجة الوداع يوم الأحد من ذي الحجة، وأقام فيها الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم خرج إلى منى يوم الخميس، فقد قدم لصبح رابعة، فأقام اليوم الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها، فإذا أجمع المسافر أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم16، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من معه الهدي)17.

قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: "إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها قصر الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة، فإنه أقام بها أربعة أيام يقصر الصلاة، وإن كان أكثر ففيه نزاع، والأحوط أن يتم الصلاة، وأما إن قال غدًا أسافر، أو بعد غد أسافر، ولم ينو المقام فإنه يقصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضعة عشر يومًا، يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة والله أعلم"18.

صلاة المسافر خلف المقيم:

إذا صلى المسافر خلف مقيم فإنه يتم صلاته حتى لو أدرك من الصلاة ركعة واحدة أو أقل، فيصلي تماماً لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما من حديث موسى بن سلمة قال: كنا مع ابن عباس بمكة فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعًا وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين، قال: (تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم)19. وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا, وإذا صلاها وحدَهُ صلى ركعتين20.

وذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله أن في إجماع الجمهور من الفقهاء على أن المسافر إذا دخل في صلاة المقيمين فأدرك منها ركعة أنه يلزمه أن يصلي أربعًا21. وقال: "قال أكثرهم إنه إذا أحرم المسافر خلف المقيم قبل سلامه أنه تلزمه صلاة المقيم، وعليه الإتمام"22.

ومما يدل على أن المسافر إذا صلى خلف المقيم يلزمه الإتمام عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبِّروا..)) متفق عليه23.

وإذا صلى المقيم خلف المسافر فإنه يتم بعد أن يسلم، فعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم يقول: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم, فإنا قومٌ سفرٌ)24.

الجَمْعُ بينَ الصَّلاتينِ:

يجوز للمسافر الجمع بين الظهر والعصر، والجمع بين المغرب والعشاء، في وقت إحداهما؛ فكل مسافر يجوز له القصر يجوز له الجمع، فعن معاذ رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر ويصليهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار، وكان يفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء)25.

وذكر بعض العلماء أنه إذا نزل –المسافر- في أثناء سفره للراحة؛ فالأفضل له أن يصلي كل صلاة في وقتها قصراً بلا جمع26.

صلاة السنن في السفر:

قال النووي: قد اتفق الفقهاء على استحباب النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة، فتركها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور27.

وقال: ابن تيمية رحمه الله: "فعل السنن الرواتب في السفر جائز، فمن شاء فعلها، ومن شاء تركها باتفاق الأئمة، والفعل أحياناً أفضل لحاجة الإنسان إليها، والترك أحياناً أفضل إذا اشتغل الإنسان بما هو أفضل منها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي من الرواتب إلا ركعتي الفجر والوتر، أما الصلاة قبل الظهر وبعدها، وبعد المغرب، فلم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك في السفر"28.

نسأل الله أن يفقهنا في الدين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه مسلم (686).

2 البخاري (1051).

3 كتاب الإجماع (صـ 48).

4 راجع: نيل الأوطار (3/239).

5 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد تنازع العلماء في التربيع [في السفر] هل هو محرم أو مكروه؟ أو ترك الأولى؟ أو مستحب؟ أو هما سواء؟ على خمسة أقوال: "أحدهما: قول من يقول: الإتمام أفضل، كقولٍ للشافعي، والثاني: قول من يسوي بينهما كبعض أصحاب مالك، والثالث: قول من يقول القصر أفضل، كقول الشافعي الصحيح، وإحدى الروايتين عن أحمد، والرابع: قول من يقول: القصر واجب، كقول أبي حنيفة ومالك في رواية، وأظهر الأقوال: قول من يقول: إنه سنة والإتمام مكروه؛ ولهذا لا تجب نية القصر عند أكثر العلماء: كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في أحد القولين عنه في مذهبه" مجموع الفتاوى (24/9، 10، 21-22).

6 وقال وهبة الزحيلي: وتقدر بحوالي (89 كم) وعلى وجه الدقة: (88.704 كم).

7 الشرح الممتع (4/496)، تيسير العلام للبسام (1/273)، والفتح الرباني للبنا (5/108).

8 الشرح الممتع (4/496 وما بعدها).

9 الإجماع لابن المنذر (صـ47).

10 انظر: فتح الباري لابن حجر (2/569).

11 البخاري (1039)، ومسلم (690).

12 الإجماع لابن المنذر (صـ47).

13 السائل هو الراوي عن أنس: يحيى بن أبي إسحاق.

14 البخاري (1031).

15 المغني لابن قدامة (3/153).

16 انظر: المغني لابن قدامة (3/147-148)، والشرح الكبير المطبوع مع المقنع (5/68)، والإنصاف المطبوع مع الشرح الكبير (5/168)، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع (2/390).

17 البخاري (1035).

18 مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/17).

19 أحمد في المسند (1/216)، قال الألباني في إرواء الغليل (3/21): (قلت: وسنده صحيح رجاله رجال الصحيح) والحديث أخرجه مسلم بلفظ: (كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصلي مع الإمام)؟ فقال: "ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم".

20 مسلم (694).

21 التمهيد (16/311-312).

22 التمهيد (16/315).

23 انظر: المغني لابن قدامة (3/346)، ومجموع فتاوى الإمام ابن باز (12/159، 260)، والشرح الممتع، لابن عثيمين (4/519).

24 مالك في الموطأ موقوفًا، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب صلاة المسافر إذا كان إمامًا أو كان وراء الإمام برقم (19) (1/149)، قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار (2/402): "وأثر عمر رجال إسناده أئمة ثقات".

25 رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه الألباني، انظر الإرواء (3/28) رقم (578).

26 الملخص الفقهي (صـ 170).

27 نيل الأوطار (3/219).

28 مجموع الفتاوى (22/279-280).