صلاة الاستسقاء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أمَّا بعدُ:
فالاستسقاء طلب السُّقيا من الله؛ فالنفوس مجبولة على الطلب ممن يُغيثها، وهو الله وحده، وكان ذلك معروفاً في الأمم الماضية، وهو من سُنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ}[البقرة: 60]، واستسقى خاتم الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأُمَّتِهِ مرات مُتعددة, وعلى كيفيَّاتِ مُتنوِّعة، وأجمع العلماء على مشروعيته.
ويُشرع الاستسقاء إذا أجدبتِ الأرضُ، وانحبسَ المطرُ وأضرَّ ذلك بهم، فلا مناصَ لهم أنْ يتضرَّعُوا إلى ربهم ويستسقوه ويستغيثوه، حتى يُفرِّجَ الله ما بهم، وينزل عليهم رحمته1.
حكم صلاة الاستسقاء:
صلاة الاستسقاء سُنَّة مُؤكَّدة؛ حضراً وسفراً، عند الحاجة، وهي ثابتة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم2.
فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه, قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو وحوَّل رداءه، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة)3.
صفة صلاة الاستسقاء:
أن يخرج المسلمون ومعهم الصبيان، والنساء اللاتي لا تُخشى الفتنة بخروجهن إلى المصلى (خارج البلد) فيُصلِّي بهم الإمام ركعتين بلا أذان ولا إقامة، كما يصلي في العيد، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {سبح اسم ربك الأعلى}، وفي الثانية بعد الفاتحة: {هل أتاك حديث الغاشية}، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي العيد)4. ويخطب بعد الصلاة خطبة واحدة أو خطبتين على قول بعض العلماء والأمر في هذا واسع، فإذا انتهى من الخطبة حوَّل المصلون جميعاً أرديتهم بأن يجعلوا ما على أيمانهم على شمائلهم، ويجعلوا ما على شمائلهم على أيمانهم، ويستقبلوا القبلة، ويدعوا الله عز وجل رافعي أيديهم مبالغين في ذلك، فعن عبَّاد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد المازني أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما5. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي وصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله عز وجل، وحوَّل وجهه نحو القبلة رافعاً يديه، ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن)6.
فائدة:
الحكمة من تحويل الأردية –والله أعلم- التفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه من الشدة إلى الرخاء ونزول الغيث7.
وقت صلاة الاستسقاء:
ليس لها وقت معين، إلا أنها لا تُفعل في وقت النهي عن الصلاة، بغير خلاف؛ لأن وقتها متسع، فلا حاجة إلى فعلها في وقت النهي، ويُسَنُّ فعلُها أول النهار، وقت صلاة العيد، لحديث عائشة رضي الله عنها: (أنه صلى الله عليه وسلم خرج حين بدا حاجبُ الشَّمسِ)8.
هيئة الخروج إلى الاستسقاء:
إذا أراد الإمام الخروج لصلاة الاستسقاء فإنه ينبغي أن يتقدم ذلك تذكير الناس بما يلين قلوبهم من ذكر ثواب الله وعقابه، ويأمرهم بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم؛ بردِّها إلى مستحقِّيها؛ لأن المعاصي سببٌ لمنع القطر، وانقطاع البركات، والتوبة والاستغفار سبب لإجابة الدعاء، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}[الأعراف: 96]، ويأمرهم بالصدقة على الفقراء والمساكين؛ لأن ذلك سبب للرحمة، ثم يعين لهم يوماً يخرجون فيه ليتهيؤوا ويستعدوا لهذه المناسبة الكريمة بما يليق بها من الصفة المسنونة9، وهي أن يخرجوا بتواضع وتذلل وتخشع وإظهار للافتقار إلى الله تعالى، ولا يلبس ثياب زينة, بل يكون متبذلاً، فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما, قال: خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُتواضعاً مُتبذلاً مُتخشِّعاً، مُترسِّلاً10 مُتضرِّعاً)11.
ما يستحب في الاستسقاء:
1- يأمر الإمام الناس بالتوبة من المعاصي، والتقرب إلى الله تعالى بوجوه البر والخير من صدقة وغيرها، والخروج من المظالم وأداء الحقوق؛ لأن ذلك أرجى للإجابة.
2- أن يخرج الإمام والناس إلى المصلى بالصفة المسنونة: وهي أن يخرجوا بتواضع وتذلل وتخشع وإظهار للافتقار إلى الله تعالى.
3- الخروج إلى المصلى في الصحراء: لحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى)12.
4- ويُسَنُّ أن يستقبل الإمامُ القبلة في آخر الدعاء، ويُحوِّل رداءه؛ ويحول الناس أرديتهم لما في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم حوَّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه، ولما روى الإمام أحمد: عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استسقى لنا أطال الدعاء وأكثر المسألة، ثم قال: "ثم تحول إلى القبلة وحول رداءه فقلبه ظهرا لبطن، وتحول الناس معه"13، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك من أسباب الإجابة.
5- الدعاء بالمأثور في الخطبة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، مريعاً مريئاً، طبقاً غدقاً، عاجلاً غير رائث، نافعاً غير ضار)14.
6- ينبغي على الإمام أن يكثر في الخطبة من الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به؛ لأن ذلك سبب لنزول الغيث، ويكثر من الدعاء بطلب الغيث من الله تعالى، ويرفع يديه؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه حتى يُرى بياض أبطيه)15.
7- إذا لم ينزل المطر يعيدون الاستسقاء ثانياً وثالثاً؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك.
8- إذا نزل المطر يقف في أوله ليصيبه منه، ويقول: (صيباً نافعاً)16، ويقول: (مُطرنا بفضل الله ورحمته)17.
9- إذا زادت المياه وخيف منها الضرر، سُنَّ أنْ يقولوا: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر)18؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك19.
أما إذا كان الاستسقاء في يوم الجمعة فإن الإمام يدعو ويؤمِّن المصلون على دعائه؛ لحديث أنس رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فقال: يا رسول الله, هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه, ثم قال: ((اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)) قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائماً, فقال: يا رسول الله هلكت الأموال, وانقطعت السبل, فادع الله يمسكها عنا، قال فرفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يديه, ثم قال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس20.
نسأل الله أن يرحمنا، ويعفو عنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
1 راجع: الملخص الفقهي (1/204).
2 راجع: الملخص الفقهي (1/204)، والفقه الإسلامي (2/413-414).
3 رواه البخاري (978)، ومسلم (894).
4 رواه الترمذي (558) وقال: حسن صحيح، وحسنه الألباني.
5 رواه البخاري (978).
6 رواه أحمد (8327) وقال محققو المسند: صحيح لغيره.
7 الملخص الفقهي (206).
8 رواه أبو داودَ (1173)، قال ابن حجر: "إسناده جيد" بلوغ المرام (143).
9 الملخص الفقهي (205).
10 متبذلاً: أي في ثيابه البذلة، لا في ثياب الزينة. مترسلاً: أي متأنياً.
11 رواه الترمذي (558)، وأبو داود (1167)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (459).
12 رواه أبو داود (1175)، وحسنه الألباني.
13 المسند (16465) وقال محققوه: حديث صحيح دون قوله: وتحول الناس معه، فهو حسن.
14 رواه أبو داود (1169) وابن ماجه (1269)، وصححه الألباني.
15 رواه البخاري (984)، ومسلم (895).
16 رواه البخاري (985)، وعند ابن حبان: (اللهم صيباً نافعاً) صحيح ابن حبان (3/286).
17 رواه البخاري (991)، ومسلم (71).
18 رواه البخاري (967) ومسلم (897).
19 راجع الملخص الفقهي (207).
20 رواه البخاري (968)، ومسلم (897).