ما قدروا الله حق قدره

ما قدروا الله حق قدره

ما قدروا الله حق قدره

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

فإن تعظيم الله تعالى، وتعظيم شعائر الله تعالى وحدوده من أجلّ العبادات القلبية، التي يتـعـيـن تحقـيقـها والقيام بها، وتربية الناس عليها، وبالذات في هذا الزمان الذي ظهر فيه الاستخفاف والاستهزاء بشعائر الله تعالى، والتسفيه والازدراء لدين الله تعالى وأهله.

كيف لا يعظم سبحانه وشأنه عظيم، قال الله تعالى:{تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} مريم:90.

قال الضحاك بن مزاحم – في تفسير هذه الآية: يتشققن من عظمة الله – عز وجل -.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً أهمية تعظيم الله سبحانه وإجلاله: “فمن اعتقد الوحدانية فـي الألوهية لله سبحانه وتعالى، والرسالة لعبده ورسوله، ثم لم يُتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام، الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح، بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل، كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه، وكان ذلك موجباً لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلاً لما فيه من المنفعة والصلاح”1

وقال ابن القيّم عن منزلة التعظيم: “هذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الربّ تعالى  في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمّاً وإجلالاً، وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، قال تعالى:{مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} نوح:13، قال ابن عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة، وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته”2.

عباد الله: إن روح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت.

وتعظيم الله وإجلاله لا يتحقق إلا بأمور منها:

1- إثبات الصفات لله تعالى كما يليق به سبحانه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، والذين ينكرون بعض صفاته تعالى ما قدروا الله – عز وجل – حق قدره، وما عرفوه حق معرفته، فمن أسماء الله تعالى الحسنى:المجيد والكبير والعظيم، وتدل هذه الأسماء: على أن الله – عز وجل – هو الموصوف بصفات المجد والكبرياء والعظمة والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجلّ وأعلى، وله التعظيم والإجلال، في قلوب أوليائه وأصفيائه، قد ملئت قلوبهم من تعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لكبريائه.

2- ومما يوجب تعظيم الله تعالى: أن نتعّرف على نعم الله تعالى،  قال أبو الوفاء ابن عقيل: “لقد عظم الله سبحانه الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه وخوف الضرر على نفسه، فقال:{إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ}النحل:106 مـن قـدّم حـرمــة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى وتحامى عن نفسك بذكره، بما لا ينبغي لـه سبحانـه، لحقيق أن تعظم شعائره، وتوقر أوامره وزواجره، وعصم عرضك بإيجاب الحدّ بقـذفـك، وعَصَم مالك بقطع مسلم في سرقته، وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك، وأباحك الميتة سدّاً لرمقك، وحفظاً لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجل، ووعيد آجل، وخَرقَ العوائد لأجلك، وأنزل الكتب إليك، أيحسن بك مع هذا الإكرام أن تُرى على ما نهاك منهمـكـاً، وعـما أمرك متنكبّاً، وعن داعيه معرضاً، ولسنته هاجراً، ولداعي عدوك فيه مطيعاً؟ يعظمك وهُوَ هُوَ، وتهمل أمره وأنت أنت، هو حطّ رتب عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجُدها لك. ما أوحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان بينا يكون بحضرة الحق، وملائكة السماء سجود له، تترامى به الأحوال والجهالات بالمبدأ والمآل، إلى أن يوجد ساجداً لصورة في حجر، أو لشمس أو لقمر، أو لشجرة من الشجر، ما أوحش زوال النعم، وتغيّر الأحوال، والحور بعد الكور”.

ولقد ربى محمد أمته على وجوب تعظيم الله تعالى، كما جاء في حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا محمد، إنّا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ…}الزمر: 67.

يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عند هذه الآية الكريمة:

“ما ذكر الله تبارك وتعالى من عظمته وجلاله أنه يوم القيامة يفعل هذا، وهذا قَدْر ما تحتمله العقول، وإلا فعظمة الله وجلاله أجل من أن يحيط بها عقل… فَمَن هذا بعض عظمته وجلاله كيف يُجعل في رتبة مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا؟” .

وقد اقتفى الصحابة – رضي الله عنهم – ومن تبعهم بإحسان هذا المسلك، فعظّموا الله حق تعظيمه، وعُمرت قلوبهم بإجلال الله تعالى وتوقيره: فهذا ابن عباس – رضي الله عنهما – يقول لبعض أصحاب المراء والجدل: ” أما علمتم أن لله عباداً أصمتهم خشية الله تعالى من غير عيّ ولا بكم، وإنهم لَهُمُ العلماء العصماء النبلاء الطلقاء، غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله تعالى انكسرت قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك، تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية، فأين أنتم منهم؟”.

وقال عون بن عبد الله: “ليعظم أحدكم ربه، أن يذكر اسمه في كل شيء حتى يقول: أخزى الله الكلب، وفعل الله به كذا”.

ويقول الخطابي: “وكان بعض من أدركنا من مشايخنا قلّ ما يذكر اسم الله تعالى  إلا فيما يتصل بطاعة”.

3- ومن تعظيم الله تعالى: تعظيم كلامه، وتحقيق النصيحة لكتابه تلاوة وتدبراً وعملاً، وقد حقق السلف الصالح الواجب نحو كتاب الله تعالى من التعظيم والإجلال، حتى إن بعض السلف كانوا يكرهون أن يصغروا المصحف.

وقال بعضهم: والله ما نمت في بيت فيه كتاب الله، أو حديث رسول الله احتراماً لهما.

4- ومما يجب تعظيمه وتوقيره: تعظيم رسول الله وتوقيره، وتعظيم سنته وحديثه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير وجوب توقيره وإجلاله: “إن الله أمر بتعزيره وتوقيره، فقال:{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} الفتح:9 والتعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار.

 5- وممن يجب تعظيمهم وإجلالهم: صحابة رسول الله، فيتعين احترامهم وتوقيرهم، وتقديرهم حق قدرهم، والقيام بحقوقهم رضي الله عنهم .

وبالجملة يجب تعظيم شعائر الله تعالى جميعها، كما قال تعالى:{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ} الحج: 32.

هذا وأسأل الله – عز وجل – أن يلطف بنا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

 أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله القائل في محكم التنزيل:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} 1)  ؛ أحمده سبحانه وأشكره على رحمته بنا مع قوته وقهره وبطشه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه ولا في تدبيره يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد ، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

أما بعد :

هناك سؤال مهم هو لماذا يعصي الإنسان ربه؟ سؤال بسيط في شكله وصياغته؛ ولكنه عظيم في مضمونه؛ لاشك أن هناك الكثير من الإجابات، ولكن وجدت إجابة في كتاب الله تشخص الداء بدقة متناهية ألا وهي قول الله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فضعف عظمة الله في قلب العبد هي التي تدفعه لارتكاب معصية العظيم سبحانه؛  كيف يعصى الله:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}  كيف يعصى الله وهو يقول:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} هذا الجبل يندك من عظمة الله! هذا الجبل بصخوره الصماء يقف خاشعاً متصدعاً أمام كلمات الله! {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}  والله {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} والله {يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} هذا الكون كله حيوانه وجماده ونباته في عبودية لله أترضى أن تكون أنت وحيداً فريداً طريداً مع العاصين؟

وقال: قال أبو ذرّ – رضي الله عنه – سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد أُلقيت بين ظهري فلاة من الأرض)3.

وعن ابن مسعود قال: (بين السماء الدنيا والتي يليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء. والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم)4

وعن العباس بن عبد المطلب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟) قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: (بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثِف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم)5.

لقد أخبرنا النبي المصطفى أن العبد حين يرتكب الذنب لا يكون مستحضراً لعظمة الله في قلبه بقوله: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ).6

ولكن مما يتميز به العبد المؤمن الذي عظُم قدر الله في قلبه أنه وإن عصى الله في حالة ضعف وغفلة فإنه يعود ويتوب إلى ربه قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}

عباد الله: إن مما يزيد العبد تعظيماً لله تعالى:

التفكر في مخلوقات الله.

والتفكر في نعم الله.

والتفكر في حال الأمم التي من قبلنا وما حصل لها.

 فإنها بإذن الله هي الدرع الحصين من الذنوب والمعاصي؛ ولا ينظر أحدنا إلى صغر الذنب ولكن لينظر إلى عظمة من عصى.

فاتقوا الله عباد الله وقدروه حق قدره.

اللهم إنا نعوذ بك من الكفر والفسوق والعصيان، ونعوذ بك من الهوى والطغيان، ونسألك الخشية والإنابة والخضوع بين يديك، وارزقنا التواضع والسكينة، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا واجعلنا من الراشدين، وصلِّ على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليماً كثيراً.


 


1 – الصارم المسلول  جزء 1 –  صفحة 375.

2 – مدارج السالكين جزء 2 –  صفحة 495.

3 – شرح العقيدة الطحاوية – (ج 1 / ص 312) (صحيح)

4 – رواه الطبراني في المعجم الكبير، وأخرجه ابن مهدي، ورواه بنحوه المسعودي . قال الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى-: وله طرق.

5 – سنن أبي داود – (ج 12 / ص 333 – 4100) وسنن الترمذي – (ج 11 / ص 140 – 3242) ومسند أحمد – (ج 4 / ص 203 – 1676). قال الألباني: ضعيف. انظر ضعيف الجامع (6093).

6 رواه البخاري ومسلم.