الحسد

الحسد

 

الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يبعثون.. أما بعد:

فإن من أخطر أمراض القلوب التي تهلكها: الحسد، ذلكم الداء العضال الذي يحرق صاحبه في الدنيا والآخرة.. والحسد هو تمني زوال النعمة عن الغير، فهو خلق ذميم، وداء عقيم، وصفة من صفات اليهود الخائنين، والنصارى الماكرين؛ قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم}[البقرة: 109]. وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا}[النساء: 51-54].

وقد أمرنا الله بالاستعاذة من شر الحاسد فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ … وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}[الفلق: 1- 5].

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا افتتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟)) قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله – أي نحمده ونشكره- قال رسول الله: ((أو غير ذلك؟ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، –أو نحـو ذلك- ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين، فتجعلون بعضهم على رقاب بعض))1. وقال معاوية رضي الله عنه: كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها، ولذلك قيل:

كل العداوات قد ترجى إماتتها *** إلا عدواة من عاداك عن حسد2.

وقال عبد الله بن المعتز:

اصبر على كيد الحسود *** فإن صبرك قاتله

فالنار تأكل بعضها *** إن لم تجد ما تأكله3

وقال بعض السلف: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، يعني حسد إبليس لآدم، وأول ذنب عصي الله به في الأرض، يعني حسد ابن آدم لأخيه حتى قتله4.

وقال الشاعر:

ياحاسداً لي على نعمتي *** أتدري على من أسأت الأدب؟

أسأت على الله في حكمه *** لأنك لم ترض لي ما وهب

فأخزاك ربي بأن زادني *** وسد عليك وجوه الطلب5

ولكن ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء، ومرض الحسد له علاج يمكن في أمور عدة ذكرها الإمام الماوردي رحمه الله منها:

– اتباع الدين في اجتنابه، والرجوع إلى الله في آدابه؛ فيقهر نفسه على مذموم خلقها، وينقلها عن لئيم طبعها، وإن كان نقل الطباع عسراً، لكن بالرياضة والتدريج يسهل منها ما استطعت، ويجيب منها ما أتعب.

– ومنها: العقل الذي يستقبح به من نتائج الحسد ما لا يرضيه، ويستنكف من هجنة مساويه، فيذلل نفسه أنفة، ويطهرها حمية، فتذعن لرشدها، وتحبب إلى صلاحها. وهذا إنما يصح لدى النفس الأبية، والهمة العلية، وإن كان ذو الهمة يجل عن دناءة الحسد.

– ومنها: أن يستدفع ضرره، ويتوقى أثره، ويعلم أن مكانته في نفسه أبلغ، ومن الحسد أبعد، فيستعمل الحزم في وقع ما كدّه وأكمده؛ ليكون أطيب نفساً، وأهنأ عيشاً.

– ومنها: أن يرضى بالقضاء، ويستسلم للمقدور، ولا يرى أن يغالب قضاء الله، فيرجع مغلوباً، ولا أن يعارضه في أمره، فيرد محروماً مسلوباً.

فإن أظفرته السعادة بأحد هذه الأسباب، واقتادته المراشد إلى استعمال الصواب، سلم من سقامه، وخلص من غرامه، واستبدل بالنقص فضلاً، واعتاض من الذم حمداً، ولمن استنزل نفسه عن مذمة، وصرفها عن لأئمة هو أظهر حزماً، وأقوى عزماً، ممن كفته النفس جهادها، وأعطته قيادها6.. والله الهادي والموفق.


1 رواه مسلم (2962).

2 الإحياء ( 3/201).

3 أدب الدنيا والين (176).

4 المصدر السابق نفسه.

5 الترغيب والترهيب للمنذري (3/557).

6 آدب الدنيا والد ين صـ (262- 264) و( 176) وما بعدها.