الاستئذان ثلاث

 الاستئذان ثلاث

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، أما بعد:

نص الحديث:

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الاستئذان ثلاث، فإن أُذن لك وإلا فارجع))1.

التعريف بصحابي الحديث:

أبو موسى الأشعري هو عبد الله بن قيس، أسلم قديماً بمكة، ثم رجع إلى بلاد قومه فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين: جعفر وأصحابه من أرض الحبشة، ووافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، ولاه عمر بن الخطاب البصرة عندما عزل عنها المغيرة في وقت الشهادة عليه، وذلك سنة عشرين، فافتتح أبو موسى الأهواز، ولم يزل على البصرة إلى صدر من خلافة عثمان، ثم لما دفع أهل الكوفة سعيد بن العاص ولوا أبا موسى، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه، فأقره فلم يزل على الكوفة حتى قتل عثمان. مات سنة اثنتين وخمسين، وقيل غير ذلك.2

معاني مفردات الحديث:

قوله (الاستئذان): طلب الإذن وهو مصدر استأذن.3

قوله (ثلاث): أي ثلاث مرات.

المعنى العام للحديث:

الاستئذان من الآداب التي حث عليها الإسلام؛ لما فيه من حفظ عورات الناس، وأمورهم الخاصة، ويشرع الاستئذان ثلاث مرات بدق الباب، أو طلب الدخول، فإن أذن له وإلا رجع، ولا يزيد عن الثلاث.

وهو مشروع لدخول البيوت والمنازل والأماكن الخاصة، وقد أمرنا الله به في كتابه العزيز وحثت عليه الأحاديث النبوية، وزعم الذين لا يعرفون الآداب الإسلامية، ولا علم لهم بما زين الله به المسلمين من الصفات الشريفة، وحلاهم به من المكارم والآداب أنه من أخلاق الغربيين، ومدنيتهم الحاضرة، وهو والله معروف عند العرب قبل الإسلام، وكان أحدهم لا يدخل بيت غيره إلا بإذنه، إلا أنهم كانوا يتساهلون في الاستئذان على أقاربهم، ويدخلون بيوت آبائهم، وأبنائهم، وأصدقائهم فجأة، وقبل أن يؤذن لهم، فنهاهم الله عن ذلك4.

شرح الحديث:

أجمع العلماء أن الاستئذان مشروع، وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة وإجماع الأمة.

والسنة أن يسلم، ويستأذن ثلاثا، فيجمع بين السلام والاستئذان كما صرح به في القرآن، واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام، ثم الاستئذان، أو تقديم الاستئذان، ثم السلام؟

والصحيح الذي جاءت به السنة، وقاله المحققون، أنه يقدم السلام، فيقول: السلام عليكم، أأدخل؟، والثاني: يقدم الاستئذان، والثالث: وهو اختيار الإمام الماوردي: إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان في تقديم السلام.5

إذا استأذن ثلاثاً فلم يؤذن له:

إذا استأذن ثلاثاً فلم يؤذن له، وظن أنه لم يسمعه، ففيه ثلاثة مذاهب: أشهرها أنه ينصرف، ولا يعيد الاستئذان، والثاني: يزيد فيه، والثالث: إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعده، وإن كان بغيره أعاده، فمن قال بالأول فحجته قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (فلم يؤذن له فليرجع) ومن قال بالثاني حمل الحديث على من علم، أو ظن أنه سمعه فلم يأذن، والله أعلم.6

وهذا الحديث هو معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[النور: 27-28].

قال ابن كثير رحمه الله في شرح هذه الآية: هذه آداب شرعية، أدّب الله بها عباده المؤمنين، وذلك في الاستئذان، أمر الله المؤمنين ألا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأنسوا، أي: يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده.

وينبغي أن يستأذن ثلاثًا، فإن أذن له، وإلا انصرف، كما ثبت في الصحيح: أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يؤذن له، وكأنه كان مشغولاً، فرجع أبو موسى، ففرغ عمر، فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ائذنوا له، قيل: قد رجع، فدعاه فقال: كنا نؤمر بذلك، فقال: تأتيني على ذلك بالبينة، فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم، فقالوا: لا يشهد على هذا إلا أصغرنا أبو سعيد الخدري، فذُهب بأبي سعيد الخدري، فقال عمر: أخفي هذا علي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألهاني الصفق بالأسواق، يعني الخروج إلى التجارة7.

ويلحق بالاستئذان في البيوت الاستئذان في كل شيء لغيرك لا يحب أن تراه أو تطلع عليه.

حكمة الاستئذان:

والحكمة من الاستئذان، والغرض من تشريعه أن المرء قد يكون على حالة لا يحب أن يراه أحد عليها، من عمل خاص، أو محادثة سرية، أو معاشرة زوجية، أو معالجة طبية، فيدخل عليه ولد، أو صديق، أو خادم، وهو عار، أو مستغرق في حديثه، أو مستمر في تفكيره، فيخجله ويزعجه، فيصرف عنه وجهه ساخطاً، أو مستحياً، وهو يتمنى له ذهاب سمعه، وبصره الذي كشف به عورته، واطلع بها على سوأته.

ولذا قال عليه الصلاة والسلام (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)8، قال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لهذا الحديث: "ويؤخذ منه أنه يشرع الاستئذان على كل أحد حتى المحارم؛ لئلا تكون منكشفة العورة، وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن نافع: كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن، ومن طريق علقمة جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: ما على كل أحيانها تريد أن تراها، ومن طريق مسلم بن نُذَيِّر: سأل رجل حذيفة: أستأذن على أمي؟ قال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره، ومن طريق موسى بن طلحة: دخلت مع أبي على أمي فدخل واتبعته فدفع في صدري، وقال: تدخل بغير إذن؟ ومن طريق عطاء: سألت ابن عباس: أستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت: إنها في حجري؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟، وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة"9.

هذه الآثار عن هؤلاء الصحابة تؤيد ما ذكرنا مما يفهم من الحديث الصحيح: ((إنما جعل الاستئذان من أجل البصر))10 فوقوع البصر على عورات من ذُكر لا يحل كما ترى، وقال ابن كثير رحمه لله في تفسيره للآية التي نحن بصددها: عن ابن مسعود قال: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم، وقال أشعث عن عدي بن ثابت: أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهل بيتي، وأنا على تلك الحال، فنزلت: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً}11.

تنبيهات تتعلق بمسألة الاستئذان:

الأول: اعلم أن المستأذن إن تحقق أن أهل البيت سمعوه لزمه الانصراف بعد الثالثة؛ لأنهم لما سمعوه ولم يأذنوا له دل ذلك على عدم الإذن.

الثاني: اعلم أن المستأذن إذا قال له رب المنزل: من أنت؟ فلا بد من أن يفصح عن اسمه أو كنيته إن كان مشهوراً بها؛ لأن لفظة: أنا يعبر بها كل أحد عن نفسه، فلا تحصل بها معرفة المستأذن، وقد ثبت معنى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه.

فعن جابرٍ رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دَين كان على أبي، فدققت الباب فقال: (من ذا؟) فقلت: أنا، فقال: (أنا، أنا) كأنه كرهَهَا.12

وتكريره صلى الله عليه وسلم لفظة: أنا دليل على أنه لم يرضها من جابر؛ لأنها لا يعرف بها المستأذن، فهي جواب له صلى الله عليه وسلم بما لا يطابق سؤاله، وظاهر الحديث أن جواب المستأذن بأنا لا يجوز؛ لكراهة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وعدم رضاه به، خلافاً لمن قال: إنه مكروه كراهة تنزيه، وهو قول الجمهور.

الثالث: اعلم أن الأظهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن الرجل يلزمه أن يستأذن على أمه، وأخته، وبنيه، وبناته البالغين؛ لأنه إن دخل على من ذُكر بغير استئذان فقد تقع عينه على عورات من ذُكر، وذلك لا يحل له.

الرابع: اعلم أنه إذا لم يكن مع الرجل في بيته إلا امرأته، أن الأظهر أنه لا يستأذن عليها، وذلك يفهم من ظاهر قوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} ولأنه لا حشمة بين الرجل وامرأته، ويجوز بينهما من الأحوال والملابسات ما لا يجوز لأحد غيرهما.

الخامس: اعلم أن أقوى الأقوال دليلاً، وأرجحها فيمن نظر من كوة إلى داخل منزل قوم، ففقئوا عينه التي نظر إليهم بها؛ ليطلع على عوراتهم أنه لا حرج عليهم في ذلك من إثم، ولا غرم دية العين، ولا قصاص، وهذا لا ينبغي العدول عنه؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه، قال الشنقيطي: ولذا لم نذكر هنا أقوال من خالف في ذلك من أهل العلم؛ لسقوطها عندنا، ولمعارضتها النص الثابت عنه صلى الله عليه وسلم.

فعن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فَخَذَفْتَهُ بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح))13 ولفظ جناح فيه نكرة في سياق النفي تعم رفع كل حرج من إثم، ودية، وقصاص كما ترى14.

فوائد من الحديث:

– الأمر بالاستئذان قبل دخول البيوت.

– أن السنة إذا قيل للمستأذن: من أنت؟ أن يسمي نفسه، ولا يقول: أنا.

– أن الاستئذان يكون ثلاث مرات، فإن أذن، وإلا فليرجع المستأذن.15

– لزوم الاستئذان على المحارم غير الزوجة.

– اتضاح الحكمة من الاستئذان وهي ألا يقع البصر على عورة أحد.

– أن الأماكن العامة غير المسكونة يجوز دخولها بغير استئذان، كمحلات البيع، والتجارة المختلفة، والمطاعم والفنادق وما أشبه ذلك.

– الإسلام دين عظيم يحافظ على بقاء المجتمع محتشماً عفيفاً، فلا يحل لأحد أن يطلع على عورة أحد.

والحمد لله رب العالمين.


1 رواه البخاري (5891)، ومسلم (2153) واللفظ له.

2 الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لابن عبد البر (1/568).

3 لسان العرب لابن منظور (1/5451).

4 إصلاح المجتمع لمحمد بن سالم البيحاني ص168.

5 شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 278).

6 شرح النووي على صحيح مسلم (7/278).

7 تفسير ابن كثير (6/36). روى الحديث البخاري برقم (1956)، ومسلم برقم (4007) واللفظ للبخاري.

8 قطعة من حديث رواه البخاري (5/2304) برقم (5887)

9 فتح الباري لابن حجر (11/25)

10 سبق تخريجه.

11 تفسير ابن كثير (3/ 341).

12 رواه البخاري برقم (5896) ومسلم برقم (2155) واللفظ للبخاري.

13 رواه البخاري برقم (6506) ومسلم برقم (2158) واللفظ للبخاري.

14 أضواء البيان للشنقيطي (5/491-499) بتصرف.

15 الدروس اليومية من السنن والأحكام الشرعية للدكتور راشد بن حسين العبد الكريم (1/298).