حكم الربا
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً، أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واحذروا أسباب سخطه وعقابه، احذروا ما حذركم الله منه إن كنتم مؤمنين، واحذروا الربا فإنه من أسباب لعنة الله تعالى، ومقته، فإن الربا من أكبر الكبائر التي حذر الله تعالى منها في كتابه وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها في سنته، وأجمع المسلمون على تحريمها.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}[ البقرة: 278-279]. واسمعوا قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[ آل عمران: 130-132]. واسمعوا قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}[البقرة: 275-276].
عباد الله: إن هذه الآيات العظام تتضمن التحذير من الربا والتهديد والوعيد فافهموها وعوها، واعملوا بها، فإن لم تفهموها فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، أو طالعوا ما قاله المفسرون فيها إن كنتم تعرفون. لقد قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "ذكر الظالمين أهل الربا والمعاملات الخبيثة وأخبر أنهم يجازون بحسب أعمالهم فكما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين عوقبوا في البرزخ والقيامة بأنهم لا يقومون من قبورهم أو يوم بعثهم ونشورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس أي من الجنون والصرع"، ولقد صدق رحمه الله تعالى فإن المرابين كالمجانين لا يعون موعظة ولا يرعوون عن معصية نسأل الله لنا ولهم الهداية1.
أيها المسلمون: اسمعوا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ((لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء)) مسلم (1598)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قيل: يا رسول الله وما هن؟ فذكر منها ((وآكل الربا)2.
واسمعوا ما صح عنه من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه نهراً من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في نهر الدم كلما جاء ليخرج رماه الرجل الذي على شط النهر بحجر في فمه فيرجع كما كان، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل الذي رآه في نهر الدم فقيل: آكلوا الربا)) رواه البخاري (1320).
واسمعوا ما رواه أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى ليلة أسري به على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا))3.
واسمعوا ما جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وله شواهد: ((الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه))4.
أيها المسلمون: إن هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث تدل دلالة واضحة على حرمة الربا وعلى شناعة فعله، وفداحة الجرم الذي يرتكب المرابي ومن يشترك معه في الربا، ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته الربا أين يكون وكيف يكون بياناً شافياً واضحاً إلا لمن به عمى، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء). رواه مسلم (1584).
إن هذه الأصناف الستة إذا بيع الشيء منها بجنسه مثل أن يباع الذهب بالذهب فلا بد فيه من شرطين اثنين أحدهما: أن يتساويا في الوزن، والثاني: أن يتقابض الطرفان في مجلس العقد فلا يفترقا وفي ذمة أحدهما شيء للآخر، فلو باع شخص ذهباً بذهب يزيد عليه وزناً ولو زيادة يسيرة فهو ربا، والبيع باطل، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الأصناف الستة إذا بيع أحدهما بجنس آخر فلا بأس أن يكون أحدهما أكثر من الآخر، ولكن لا بد من التقابض من الطرفين في مجلس العقد. بحيث لا يتفرقان وفي ذمة أحدهما للآخر شيء. فلو باع ذهباً بفضة وتفرقا قبل القبض فهو ربا حرام والبيع باطل.
أيها المسلمون: إن شريعة الله نظمت للناس طرق معاملاتهم فيما بينهم كما نظمت طرق أخلاقهم ومعاملاتهم مع ربهم، فالواجب على كل مؤمن بالله واليوم الآخر أن يدين لله بالطاعة في عباداته وأخلاقه، ومعاملاته ولا يكون كالذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، يدين لله في عباداته وأخلاقه ويتبع هواه في معاملاته فإنه مسؤول عن ذلك كله، وكم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من وعد لمن استقام في معاملاته على أمر الله ووعيد على من تعدى فيها حدود الله.
أيها المسلمون: اعلموا أنكم اليوم في زمان قد فشا فيه الربا، وأكله كثير من الناس إيثاراً للحياة الدنيا على الآخرة، فتعامل به، وأكله كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، وهم يعلمون أنه كسب حرام، فتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أم من حرام)5.
عباد الله: إن كثيراً من الناس اليوم استحلوا الربا بدعوى البيع باسمه وصورته وتحت ستاره يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، وما منهم أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فليعدوا للسؤال جواباً، وليكن الجواب صواباً، وإلا فليحذروا النار فإنها موعودة لكل آثم كفار.
أيها المسلمون: لقد عمي قوم أو تعاموا عن الحق ظنوا أو زعموا أن شرائع الله تعالى إنما جاءت لإصلاح العبادات والأخلاق دون المعاملات فاتبعوا أهواءهم في معاملاتهم فشرعوا القوانين وتصرفوا كما يشاؤون فشاركوا الله تعالى في شرعه وعتوا عن أمره في شريعته: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين: 4-6]، أفلا يرجع هؤلاء إلى رشدهم ويتبعون سبيل ربهم ويلتزمون بشريعته، ويقفون عند حدوده ويقولون سمعنا وأطعنا ولا يكونون كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون أو قالوا سمعنا وعصينا.
واعلموا عباد الله أن الربا يظهر بين يدي الساعة وهذا الربا ظاهر في مجتمعاتنا فعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بين يدي الساعة يظهر الربا والزنا والخمر))6، فالربا فاشٍ في المجتمعات الإسلامية وهو آفة عظيمة وكبيرة من الكبائر، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث عبد الله بن حنظلة – غسيل الملائكة -رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((درهم ربا يأكله الرجل – وهو يعلم- أشد من ستة وثلاثين زنية)7، فأين من يسمع هذه الأحاديث؟ وأين من يعمل بها؟ وأين من يخاف الله عز وجل ويراقبه وينتهي عن أكل الربا؟. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} أي (استيقنوا بحرب من الله ورسوله)، فآكل الربا والمصر على التعامل بالربا قد أعلن الحرب مع الله عز وجل، ومن يقدر على حرب الله سبحانه وتعالى، مسكين يحارب الله عز وجل الذي خلقه وصوره في أحسن تقويم.
فاتقوا الله عباد الله: وسيروا في عباداتكم ومعاملاتكم، وجميع تصرفاتكم على شريعة الله، ولا تتبعوا أهواءكم فإن الله يقول: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[القصص: 50]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر والحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، أما بعد:
أيها المسلمون: إن مما تجري به معاملات الناس اليوم أخذ الزيادة التي يسمونها زوراً وبهتاناً: الفائدة: وهذا تحايل على الدين. يأخذها الدائن من المدين نظير تأجيل الدين من قرض أو ثمن مبيع أو نتيجة تفضيل أحد المبيعين على الآخر مما يجري فيه ربا الفضل، كالذهب بالذهب، وغيره مما فيه علة الربا، وقد تكون هذه الزيادة مشروطة، وقد تكون متعارفاً عليها كما هو واقع كثير من المعاملات البنكية وغيرها من المعاملات الربوية الشائعة في هذا الزمان والتي اكتوى بنارها كثير من بني الإنسان، من ذلك الإقراض النقدي من شخص أو مؤسسة مالية لطرف آخر إلى أجل، حيث يفرضون على هذا القرض زيادة تقدر بنسبة مئوية.
وكذلك الفوائد التي تؤخذ مقابل تأجيل الديون الحالة على الأشخاص أو المؤسسات إلى فترة أخرى يرجى أن تتمكن من تسليم ما عليها من التزامات، وتتضاعف هذه الفائدة كلما تأخر التسديد.
فهاتان الصورتان من ربا النسيئة الذي كانت تتعامل به الجاهلية حين نزل القرآن وجاء بشأنها الوعيد الشديد والتهديد الأكيد حيث كان أهل الجاهلية يقرضون أو يقترضون الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة تزداد كلما تأخر الوفاء، وكانوا يأخذونها أيضاً مقابل تأجيل الدين الحال إلى أجل آخر، حيث يقول الدائن لمدينه: إما أن تقضي أو تُربي.
ومن صور الربا المعاصر ما يقوم به بعض الأشخاص أو المؤسسات المالية من تمويل بعض المشروعات العمرانية أو الزراعية أو الصناعية ونحوها بما يلزم لإنشائها من المواد ونحوها بسعر السوق – وقت العقد أو الطلب- على أن يرد صاحب المشروع للممول هذا المبلغ مع زيادة تقدر بنسبة مئوية قد تكون قابلة للزيادة مقابل ذلك، ومن صور الربا بيع عملات الدول المختلفة عملة بأخرى دون تسليم وقبض المبيعين، أو أحدهما في مجلس البيع. وكذلك بيع الذهب بالأوراق النقدية دون قبض.
أيها المسلمون: لقد انتشر الربا بصور ومسميات كثيرة، حيث أنك لا تجد اسم الربا مصرحاً به في تلك المعاملات، وهي ربا صريح، ومنكر قبيح وكثيرون يجهلون ذلك، وآخرون يعرفون ولكن قتلهم الشح والتهالك، اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فبئس ما يشترون، قد عرضوا أنفسهم لأليم العذاب وشديد العقاب: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}[التوبة: 63].
أيها المؤمنون: إن من عقوبات أكل الربا أنه يمنع إجابة الدعاء، ويورث الشقاء، ويجلب أنواع البلاء، ويقسي القلوب، ويغريها بالإثم والفحشاء لا تسمع من صاحبه الدعوات، ولا تقبل منه الصدقات، ولا يبارك الله في التجارات، ولا يثاب على النفقات، عليه غرمه ولغيره غنمة.
فاتقوا الله يا أهل الإسلام: اجتنبوا الحرام، واحذروا الآثام ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومن استغنى عن شيء أغناه الله عنه، ومن يستعفف يعفه ومن يتق الله يرزقه، قال الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق 1-2]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}[الطلاق: 3-4].
عباد الله: التوبة التوبة، والرجوع قبل الندم، والإقلاع عن كل باطل وشبهة والتمسك بحبل الله..
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا، والزلازل والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأهلك أعداءك أعداء الدين، يا قوي يا متين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
1 الشيخ ابن عثيمين في "الضياء اللامع".
2 البخاري (2615)، ومسلم (89) واللفظ له.
3 رواه أحمد (8640)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد، وجهالة أبي الصلت".
4 مستدرك الحاكم (2259)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
5 رواه البخاري (1977).
6 ذكره المنذري في الترغيب ( 3/ 9)قال: رواه الطبراني ورواته رواة الصحيح.
7 المنذري في الترغيب (3/7)، وقال رواه أحمد والطبراني في الكبير.