حياة القلوب
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: عباد الله: إن القلوب إن صلحتْ صلحت أعمالنا، وصلحت أحوالنا، وارتفعت كثير من مشكلاتنا، وإذا فسدت هذه القلوب التي هي القائدة للأبدان، والجوارح فسدت أعمال العبد، واضطربت عليه أحواله، ولم يعد يتصرف التصرف اللائق الذي يرضي ربه ومولاه؛ فخسر الدنيا والآخرة قال النبي ﷺ : أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ1 والله يقول: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور (سورة الحج:46).
والقلب ما سمي قلباً إلا لكثرة تقلبه، فهو كثير التقلب بالخواطر، والواردات، والأفكار، والعقائد، ويتقلب كثيراً على صاحبه في النيات، والإرادات، كما أنه كثير التقلب من حالٍ إلى حال، يتقلب من هدى إلى ضلال، ومن إيمان إلى كفر أو نفاق، ولهذا كَانَ النبي ﷺ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ2 وكذا يقال له: الفؤاد لكثرة تفؤده أي كثرة توقده بالخواطر، والإرادات، والأفكار، والإنسان قد يستطيع أن يُصِّم أذنه فلا يسمع، وقد يستطيع أن يغمض عينه فلا يبصر، ولكنه لا يستطيع أن يمنع قلبه من الفكر والنظر في الواردات والخواطر، فهي تعرض له شاء صاحبها أم أبى، ولهذا قيل له فؤاد: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (سورة الإسراء:36)
مـا سمي القـلب إلا مـن تقلبه | والرأي يصرف بالإنسان أطواراً |
والنبي ﷺ حينما ذكر التقوى أشار بيده ﷺ إلى صدره كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : لَا تَحَاسَدُوا إلى أن قال: التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ3، و’المرء بأصغريه’ وهما: قلبه، ولسانه.
ولما كانت حياة الإنسان الظاهرة متعلقةً بحياة القلب فإن الإنسان لا يمكن أن يعيش على نحو سوي إلا بسلامة قلبه، فحياة القلب لها تعلقٌ وثيق مؤثر على أفعاله وتصرفاته المعنوية، وكذا ما نسميه بالأمراض القلبية، والإحساسات والمشاعر الداخلية، فالقلب محل الإيمان والتقوى، أو الكفر، والنفاق، والشرك وما إلى ذلك.
عباد الله: كلكم يعلم أن القلب ملك الجوارح، وهو كما يقول العز بن عبد السلام – رحمه الله -: “مبدأ التكاليف كلها، وهو مصدرها، وصلاح الأجساد موقوف على صلاحه، وفساد الأجساد موقوف على فساده، يقول ابن رجب – رحمه الله – في شرح هذا الحديث: أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً يقول: “إن فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات، واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليماً ليس فيه إلا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه؛ صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات، وإذا كان القلب فاسداً قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه ولو كرهه الله؛ فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع الهوى هوى القلب”.
يقول الحسن البصري – رحمه الله – : “داو قلبك، فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم”، وهذا معنى صحيح إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، وإنما ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم4 فمحل نظر الله هو قلب العبد، فإذا صلح قلبه صلحت أعماله، وكان مقبولاً عند الله ، وإذا كان القلب فاسداً فلربما ركع صاحبه وسجد مع رسول الله ﷺ وهو في الدرك الأسفل من النار كعبد الله بن أبي بن سلول، ومن معه من المنافقين، يخرجون مع رسول الله ﷺ في الغزوات، ولربما قدموا شيئاً من أموالهم دفعاً للتهمة عنهم، أو حياءً من الناس، ومع ذلك لم تزكُ نفوسهم، ولم تصلح قلوبهم، ولا أحوالهم، ولا أعمالهم؛ لأن هذه القلوب قد انطوت على معنى سيء أفسدها، وعلى نجاسةٍ كبرى لا تطهرها مياه البحار وهي الشرك بالله ، والنفاق.
كان الحسن البصري – رحمه الله – يجلس في مجلس خاصٍ في منزله لا يتكلم فيه عن شيء إلا في معاني الزهد والنسك، والرقاق والقضايا المتعلقة بالأعمال القلبية، فإن سئل سؤالاً يتعلق بغيرها في ذلك المجلس تبرم، وقال: “إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر”. وهذا يدل على أن الإنسان ينبغي ألا يغفل، وألا يكون شارداً في زحمة الأعمال – حتى الأعمال الدعوية -، ينبغي أن يكون له مجالس يتذاكر فيها مع إخوانه، ترقق قلبه، وتصلح ما فسد من هذا القلب في زحمة الأشغال كزيارة القبور، وذكر الموت، وما إلى ذلك من الأمور.
أسأل الله أن يصلح قلوبنا وقلوبكم، وأن يوفقنا لفعل الخيرات، وترك المنكرات، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
عباد الله: هناك أمور يتم بها صلاح القلب، وهي كثيرة جداً، ومن أعظم الأمور التي تصلح القلب وتحييه:
المجاهدة: فالإنسان يحتاج إلى مجاهدة دائمة ومستمرة، ومكابدة، يقول ابن المنكدر – رحمه الله – وهو من علماء التابعين: “كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي”. نحن عباد الله نحتاج إلى كثير من المجاهدة لإصلاح هذه القلوب يقول أبو حفص النيسابوري – رحمه الله – : “حرست قلبي عشرين سنة – كان في مجاهدة ومكابدة مع هذا القلب يحرسه من كل كافر -، ثم حرسني عشرين سنة”.
إذا استقام قلب العبد؛ استقامت أعماله وجوارحه، فإذا جاءه الشيطان بخاطرة من الخواطر قبل أن يستقيم قلبه، ويثبت على الطاعة؛ فإن القلب يحتاج إلى مدافعة عظيمة لهذه الخواطر، فإذا صار في القلب قوة وصلابة في الإيمان، واستقام القلب لصاحبه، وروضه على طاعة الله ، والإقبال عليه؛ فإنه يحرس صاحبه، فإذا رأى شيئاً تلتفت إليه كثير من النفوس الضعيفة، ويتطلع إليه أصحاب القلوب المريضة، فيطمع الذي في قلبه مرض؛ فإن هذا الإنسان ينصرف قلبه عن هذه الأمور المشينة، ولا يلتفت إليها، ويتذكر مباشرة عظمة وجلال الله ورقابته، فلا تتحرك نفسه للمعصية، أو الوقوع في الريبة، والدخول في أمور وطرائق ليس له أن يدخل فيها “حرست قلبي عشرين سنة، فحرسني عشرين سنة، ثم وردت عليّ وعليه حالة صرنا محروسين جميعاً”.
ومما يصلح القلب أيها الإخوة: كثرة ذكر الموت، وزيارة القبور، ورؤية المحتضرين: فإنها اللحظات التي يخرج الإنسان فيها من الدنيا، ويفارق سائر الشهوات واللذات، ويفارق الأهل والمال الذي أتعب نفسه في جمعه في لحظة ينكسر فيها الجبارون، ويخضع فيها الكبراء، ولا يحصل فيها للعبد تعلق بالدنيا، ولهذا يكثر من الناس التصدق في تلك الأحوال، ولربما كتب الواحد منهم في حال صحته وعافيته وصية يوصي بها أنه إذا مات وانقطعت علائقه من الدنيا أن يخرج من ماله كذا وكذا.
ومما يحيي القلب: مجالسة الصالحين الذين يذكرون الله ، ويذكِّرون بالله بالنظر إلى وجوههم: من الناس من إذا نظرت إلى وجهه انشرح صدرك، وذهبت عنك كثير من الأوهام والهموم، والغموم والمخاوف قال ابن القيم – رحمه الله -: “كنا إذا حدق بنا الخصوم، وأرجفوا بنا، وألبوا علينا، واعترتنا المخاوف من كل جانب؛ أتينا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، فو الله ما إن نرى وجهه حتى يذهب ذلك عنا جميعاً لما يرون في وجهه من الإنارة، وما يرون فيه من المعاني الدالة على انشراح الصدر، وثبات القلب، ومن المعاني الدالة على الخوف من الله ، والتقى والرجاء وما إلى ذلك من الأمور التي تنعكس في وجه العبد، فإن الوجه مرآة لهذا لقلب، ولهذا قيل: “ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحة وجهه، وفلتات لسانه”، ودخل رجل على عثمان فقال: “أيعصي أحدكم ربه، ثم يدخل عليَّ؟ فقال الرجل: أَوَحْيٌ بعد رسول الله ﷺ! يعني كيف علمت؟ فأخبره أنها فراسة المؤمن، فالوجه تنعكس فيه أحوال القلب فيكون الوجه مظلماً لما في القلب من الظلمة، ويكون الوجه مشرقاً لما في القلب من الإشراق.
وأمرٌ رابع يصلح به القلب: وهو أن يكون تعلقه بربه، ومعبوده، وخالقه : إذا تعلق القلب بالمخلوق عذب بهذا المخلوق أياً كان سواء كان رجلاً، أو امرأة، أو سيارة، أو عقاراً، أو مالاً أو غير ذلك ولهذا كان ابن القيم – رحمه الله – يقول: “إن في القلب وحشة لا يذهبها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وفيه فاقه – يعني: فقر – لا يذهبه إلا صدق اللجوء إليه، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تذهب تلك الفاقة أبداً”. ومما يصلح القلب الأعمال الصالحة بجميع أنواعها كما قال ابن عباس : “إن للحسنة نوراً في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق”.
ومما يصلح القلب: أن نستعمله فيما خلق له، هذا القلب خلق ليكون عبداً لله، خلق ليعمل أعمالاً جليلة هي الأعمال القلبية الصالحة، فإذا أشغل القلب بغيرها تكدر وفسد.
ومن أعظم الأعمال الصالحة التي تصلح القلب: ذكر الله ، وقراءة القرآن: والحديث عن هذا يطول، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، ولقد قال سليمان الخواص – رحمه الله – : “الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسم، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم؛ فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا – أو كما قال -“، وقد أحسن من قال:
دواء قلبك خمسٌ عنـد قسوتـه | فاذهب عليها تفز بالخير والظفرِ |
خـلاء بطـنٍ وقـرآنٌ تدبـره | كذا تضـرع باكٍ ساعة السحـرِ |
ثـم التهجد جنـح الليل أوسطه | وأن تجالس أهـل الخير والخبـرِ |
اللهم نسألك قلوباً حية عامرة بالإيمان، ونعوذ بك من موت القلوب، ومن الكفر والفسوق والعصيان، ونعوذ بك من الهوى والطغيان، ونسألك الخشية والإنابة، والخضوع بين يديك، وارزقنا التواضع والسكينة، وحبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، واجعلنا من الراشدين.
وصلِّ على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلِّم تسليماً كثيراً.
1– أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه 1/ 28- 52، ومسلم في كتاب المساقاة باب أخذ الحلال وترك الشبهات 3/ 1219- 1599.
2– أخرجه الترمذي 4/ 448- 2140 وأحمد 3/ 112- 12128 وصححه الألباني في صحيح الترمذي 3/ 171- 2792.
3– أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله 4/ 1986- 2564.
4– أخرجه مسلم 4/ 1986- 2564.