الظلم

الظلم

 

الحمد لله الذي أمر بالعدل ونهى عن الظلم والخيانة والبهتان، وأنعم على عباده الصالحين العادلين بجزيل الإنعام والإحسان، وانتقم من الظالمين الخائنين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل والنكران، أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، أحمده وأشكره على مواهب الإحسان والإنعام وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العلام، وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله سيد الأنام، حذر أمته من الظلم والعصيان وسائر الآثام، اللهمَ صلى وسلم عليه ما تعاقب الليل والنهار، والشهور والأعوام، وعلى آله وصحبه النجباء العظام، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم العرض على الملك العلام، أما بعد:

أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله وطاعته فهي وصية الله للأولين والآخرين؛ كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ}[النساء: 131].

 ثم اعلموا – ثبتني الله وإياكم على الصراط المستقيم – أن الظلم قد عم وطم وانتشر في هذه الأزمنة المتأخرة، فلا يكاد يسلم منه إلا من رحم ربي، فلقد ماتت الأمانة والعدالة والإنصاف بين المسلمين، فظلم الإنسان نفسه بارتكاب ما يغضب الملك العلام، وأخذ مال غيره بلا سلطان ولا برهان، ولم يراعي حق زوجته وأولاده وجيرانه، ولم يصل الأرحام؛ بل إنه تعدى وظلم وفرط وقصَر في حق الله، وحق نفسه، وحق إخوانه،- ولا حول ولا قوة إلا بالله-.

عباد الله: إن الظلم مرتعه وخيم، وعاقبته سيئة، وهو منبع الرذائل، ومصدر الشرور، وحد الظلم أنه وضع الشيء في غير موضعه، وهو انحراف عن العدالة، ومتى شاع وفشى في أمة أهلكها، وإذا حل في قرية أو مدينة دمرها.

وهو والفساد قرينان بهما تخرب الديار، وتزول الأمصار، وتقل البركات، ويحل الفشل محلها، وهو ظلمات تزول الأقدام في غياهبه، وتضل به الأفهام، ويظهر الفساد، وينشر بسببه  الخوف بين الناس.

وأعظم الظلم وأشده وأخبثه الشرك بالله؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان: 13].

وأظلم أهل الظلم من بات مشركاً *** برب الورى فافهمه فهم موحد

وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف: 29]، وقال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر: 18]، وقال تعالى :{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}[الشعراء: 227]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}[الأنعام: 93].

وقال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}[إبراهيم: 42]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}[الفرقان: 27]. وهذا شيء يسير مما ورد في القرآن في حق الظالمين.

وأما من السنة فمن ذلك ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظلم ظلمات يوم القيامة" رواه مسلم.

وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا" الحديث رواه مسلم وأحمد.

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته". ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}[هود: 102]. رواه مسلم.

وأما ظلم الناس فهو على أنواع يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" رواه مسلم.

ذالكم هو سبيل الإجمال وإليكم التفصيل بعد الإجمال:

أولاً: إن أظلم الظلم الشرك بالله في أي شكل من أشكاله الكبير والصغير والظاهر والباطن، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}[الأنعام: 82].

فعن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}[الأنعام: 82]، شق ذلك على أصحاب رسول الله، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان: 13].

ثانياً: ما دون الشرك من المعاصي والسيئات كبيرها وصغيرها، ظاهرها وباطنها، ولذلك صوراً عدة منها:

1- خيانة الرجل في أهله، قال تعالى على لسان يوسف لما راودته امرأة العزيز عن نفسه، وغلقت الأبواب، وقالت هيت لك، قال: {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[يوسف: 23].

2 – أخذ غير الجاني مكان الجاني، قال تعالى على لسان يوسف لما قال له إخوته: {قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: 78]. فرد قائلاً: {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ}[يوسف: 79].

3- ومنها تخريب المساجد من روادها وعمارها، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة: 114].

4- أكل أموال الناس ظلماً وعدواناً، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء: 10].

5 – كتمان العلم لا سيما في القضايا المصيرية المتعلقة بالعقيدة، قال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[البقرة: 140].

6- ومن هذه الصور إمساك المرأة للإضرار بها، قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة: 231]، وغيرها كثير.

أيها المؤمنون: إن هذا الظلم ما انتشر وعم إلاَ لوجود أسباب عدة منها:

أولاً: البيئة، فإذا عاش الإنسان في وسط بيئة خيرة فسيكون خيراً، وإذا كانت شريرة كان شريراً، ومن الشر الظلم أو الجور.

ثانياً: عدم مراقبة الله ونسيان الآخرة، قال الله عن صحاب الجنتين: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا}[الكهف: 35 – 36].

ثالثاً من الأسباب: النعمة والعافية من صحة ومالٍ وأهل وولدٍ وعشيرة ووجاهة، قال الله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}[العلق: 6-7].

وقد ذكر رب العزة في كتابه نماذج عدة ممن قادتهم النعمة والعافية إلى الظلم؛ كنمرود بني كنعان حيث انتهى به دوام النعمة إلى أن ادعى أنه يحيي ويميت، فلقد قيل أنه بقي معافى أربعمائة سنة، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[البقرة: 258].

وفرعون قادته النعمة إلى أن ادعى أنه رب الناس الأعلى، قال الله: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِين}[الزخرف: 51-54].

وقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * … فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى}[النازعات: 9-26]. إلى غير ذلك من النماذج.

رابعاً: عدم محاسبة الجبارين من قبل المجتمع، ومن قبل ولي الأمر، قال الله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}[المائدة: 78 -81].

وقال أبو بكر بعد أن حمد الله، وأثنى عليه: يا أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }[المائدة: 105] وأنا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب))1.

خامساً: الخوف من ظلم الظالمين، وذلك أن شيوع الظلم في مجتمع ما قد يحمل بعض الناس على اقتراف الظلم من باب أن الشر لا يدفع إلا بشر مثله، وقد كان هذا سائعاً عند العرب في الجاهلية حتى قال قائلهم:

ومن لا يذد عن حوضه بسهامه *** يُهدَم ومن لا يظلم الناس يظلم

ولكن الشارع الحكيم أباح رد الشر بمثله من غير زيادة، فقال: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[الشورى: 40].

سادساً: الجهل بعواقب الظلم وأثاره الدنيوية والأخروية، سوءً على الفرد أو على المجتمع ككل.

أيها الناس: إن للظلم آثاراً سيئة، وعواقب وخيمة على الفرد والمجتمع ومنها:

1.  الحرمان من الفقه والتوفيق، قال الله حاكياً عن النمرود: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[البقرة: 258]. وقال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[آل عمران: 86].

2.  القلق والاضطراب النفسي، وذلك لأن الظالم يعيش ليله ونهاره في المعاصي والسيئات، وذلك يورث فساد القلب، الأمر الذي يؤدي إلى القلق والاضطراب، وهو المفهوم من قوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}[الأنعام: 82].

3.  الانتقام في الدنيا والآخرة، وذلك أن الناس يضجون بالشكوى من الظالمين، ويستغيثون بالله دوماً أن يرد إليهم مظلمتهم، وأن ينتقم من ظلمهم، وقد وعد الله إجابة المظلومين ولو بعد حين ؛ كما في حديث معاذ بن جبل المشهور حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن داعياً إلى الله ومرشداً، وقال له: "… واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" رواه البخاري ومسلم. وفي الحديث:" اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنها تحمل على الغمام، يقول الله جل جلاله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين"2.

4.  الحسرة والندامة بعد فوات الأوان، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[يونس: 54].

 وقوله تعالى: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ}[إبراهيم: 44].

5.  فقدان النصير والمعين والشفيع، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[المائدة: 72]. وقوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}[فاطر: 37]. وقوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر: 18].

عباد الله: إن بالعدل تقام الدولة الكافرة، وبالظلم تهدم الدولة وإن كانت مسلمة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة"3.

ولعل سائلاً يسأل ويقول: لقد عرفنا الظلم وقبحه وشناعته، وصوره وأسبابه، فهل هناك علاج لهذا الخلق المشين والحد من انتشاره؟ فأقول: نعم، هناك علاجاً نافعاً – بإذن الله – لمن أخذ به، ويتمثل هذا العلاج في عدة أمور منها:

أولاً: معايشة القرآن والسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن القرآن مليء بالحديث عن الظلم والظالمين جرائم وعواقب، وكذلك سنة وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وحسبنا أن الرسل والرسالات كانت من أجل رفع الظلم عن المظلومين، ومداواة الظالمين أو تخويفهم عاقبة ظلمهم، وإقامة الحجة عليهم، قال الله: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ}[الأحقاف: 12].

وقوله تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}[الحـج: 45]. وغيرها من الآيات.

ثانياً: التوبة النصوح، وذلك بالإقلاع الفوري عن الظلم، ورد المظالم إلى أصحابها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، والعزم الأكيد الصادق على عدم العودة، والحذر من التأخير والتسويف والتمادي في الظلم، قال الله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}[آل عمران: 135- 136].

 وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}[النساء: 64].

 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) رواه البخاري وأحمد.

وفي عاقبة التمادي في الظلم يقول المعصوم عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:  بلغني عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيراً، ثم شددت رحلي فسرت إليه شهراً؛ حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟! قلت: نعم، فخرج عبد الله بن أنيس فاعتنقني، فقلت: حديث بلغني عنك، أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله الناس يوم القيامة عراة غرلاً بهماً" قلنا: ما بهما؟ قال: "ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه مظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة– يعني لا يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار إلا بعد القصاص وتصفية الحساب،- قلت: وكيف؟ وإنما نأتي الله عراة بهماً؟! قال: "بالحسنات والسيئات"4.

ثالثاً: دوام النظر في مصير الظالمين، قال لله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[الصافات: 137-138]. وقال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[العنكبوت: 40].

رابعاً: تربية ملكة المراقبة لله في السر والعلن، قال الله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن: 46]، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 40-41].

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، أقول ما سمعتم واستغفروا الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأصلي وأسلم على خير من وطأ الثرى، وساد الورى، وأعدل أهل الأرض والسماء، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين. أما بعد:

عباد الله: خامساً ومن العلاج لهذا المرض الخطير: تهيئة الجو من أجل إعانة الظالم على التخلص من ظلمه، بل توقيه والاحتراز منه، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه أبو داوود وغيره: ((إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه))5.

سادساً: التذكير بالنعمة والعافية، من المنعم؟! وما حقه؟ وكيف يؤدى هذا الحق؟ وما ثمرته؟ وما فوائده؟ قال الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}[البقرة: 152]. وقوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم: 7].

سابعاً: قيام ولي الأمر والمجتمع بواجبهما نحو الظالمين، وذلك وفق الضوابط الشرعية في إنكار المنكر، كل بحسب إمكاناته وحسبنا قوله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فلبسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)). فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: ((تحجزه أو تمنعه عن الظلم، فإن ذلك نصره)) رواه البخاري.

ثامناً: دوام النظر في أحوال الأمم التي تأبى الضيم ولا ترضى الظلم، وقد تكون كافرة؛ كما جاء في حديث المستورد بن شداد قال عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله يقول: ((تقوم الساعة والروم أكثر الناس)) فقال له عمرو: أبصر ما تقول؟ قال: أقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً! إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين، ويتيم، وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك" أخرجه مسلم وأحمد.

تاسعاً: التذكير بعواقب وآثار الظلم، قال الله تعالى: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأعراف: 164].

فالحذر الحذر عباد الله من الظلم بكافة أشكاله وصوره، وعلى من وقع في ظلم نفسه أو ظلم غيره بالتوبة النصوح.

فيا عبد الله: إذا فهمتم ما تقدم من شناعة الظلم وقبح عاقبته، وما ورد من الوعيد الشديد على مرتكبه، وأن من مات قبل رد المظالم أحاط به يوم القيامة خصماؤه فهذا يأخذ بيده، وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يمسك يده، وذاك يتعلق بلبه ورقبته، وهذا يقول: ظلمني فغشني، وهذا يقول: ظلمني فبخسني، وهذا يقول: خدعني، وهذا يقول: قذفني، وهذا يقول: أكل مالي، وهذا يقول: اغتابني، وهذا يقول: كذب علي، وهذا يقول: قطع رحمي.

وهذا يقول: جاوروني فأساء مجاورتي، وهذا يقول: رآني مظلوماً فلم ينصرني، وهذا يقول: رآني على منكر فلم ينهني، وهذا يقول: جحد مالي، وهذا يقول: مطلني حقي، وهذا يقول: باعني وأخفى عني عيب السلعة، وهذا يقول: سرق مالي، وهذا يقول: قطع من ملكي، وهذا يقول: شهد عليَ الزور.

وهذه تقول: أكل صداقي، وهذه… وهذه…!.

 وهذا يقول: غدر بي، وهذا خانني، وهذا يقول: كادني، وهذا يقول: منعني النوم بملاهيه من مذياع وتلفزيونه ودشه، وسينمائه، فبينما أنت على تلك الحال المخفية التي لا يرى فيها بعضك من كثرة من تعلق بك من الغرماء، وأنت مبهوت متحير ومضطرب الفكر والعقل من كثرتهم ومطالبهم، و… و.. ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله أن يخلصك من أيديهم؛ إذ قرع سمعك نداء الجبار جلَ وعلا وتقدست أسماؤه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر: 17].

 فعند ذلك ينخلع قلبك – يا عبد الله – وتضطرب أعضاؤك من الهيبة، وتوقن نفسك بالبوار وتذكر ما ذكر الله تعالى على لسان رسله حيث قال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء}[إبراهيم: 42- 43].

وقوله تعالى:{وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}[الشورى: 44- 45].

 فيالها من مصيبة، وما أشدها من حسرة في ذلك اليوم، إذ جاء الرب جلَ وعلا للفصل بين عباده بحكمه العدل، وشوفه الظالم بالخطاب، وعلم أنه مفلس فقير عاجز مهين، لا يقدر على أن يرد حقاً أو يظهر عدلاً، فعند ذلك تؤخذ من حسناته التي تعب عليها في عمره، ليلاً ونهاراً، وحضراً وسفراً، وتنقل إلى الخصماء عوضاً عن حقوقهم؛ كما جاء في حديث المفلس.

وقال بعض الشعراء ناصحاً للظالمين وواصفاً حالهم يوم القيامة:

وفي الناس من ظلم الورى عادة له *** وينشر أعذار بها يتأوَلُ

جريء على أكل الحرام ويدعي *** بأن له في حل ذلك محمل

فيا آكل المال الحرام أَبِنْ لنا *** بأي كتاب حل ما أنت تأكل

ألم تدر أن الله يدري بما جرى *** وبين البرايا في القيامة يفصل

حنانيك لا تظلم فإنك ميت *** وبالبعث عما قد توليت تسأل

وتوقف للمظلوم يأخذ حقه *** فيأخذ يوم العرض ما كنت تعمل

ويأخذ من وزر لمن قد ظلمته *** فيوضع فوق الظهر منك ويجعل

فيأخذ منك الله مظلمة الذي *** ظلمت سريعاً عاجلاً لا يؤجل

تفر من الخصم الذي قد ظلمته *** وأنت مخوف موجف القلب موجل

تفر فلا يغني الفرار من القضا *** وإن تتوجل لا يفيد التوجل

فيقتص منك الحق من قد ظلمته *** بلا رأفـة كلا ولا منك يخجل

وحكي أن الرشيد حبس أبا العتاهية فكتب على جدر الحبس:

      أما والله إن الظلم شؤم *** وما زال المسيء هو الظلوم

إلى الديان يوم الدين نمضي         *** وعند الله تجتمع الخصوم

 ستعلم في الحساب إذا التقينا *** غداً عند المليك من الظلوم

تنام ولم تنم عنك المنايا *** تنبه للمنية يانؤوم

لهوت عن الفناء وأنت تفنى *** وما حي على الدنيا يدوم

تروم الخلد في دار المنايا *** وكم قد رام غيرك ما تروم

سل الأيام عن أمم تقضت *** ستخبرك المعالم والرسوم

فأخبر الرشيد بذلك فبكى بكاءً شديداً، ودعا أبا العتاهية فاستحله، ووهب له ألف دينار؛ لحبسه من غير موجب شرعي.

اللهم! يا عالم الخفيات، ويا سامع الأصوات، ويا باعث الأموات، ويا مجيب الدعوات، ويا قاضي الحاجات، يا خالق الأرض والسماوات، أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد لم يكن له كفواً أحد، الوهاب الذي لا يبخل، والحليم الذي لا يعجل، لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك، نسألك أن تغفر ذنوبنا، وتثبت محبك في قلوبنا، وتسكننا دار كرامتك إنك على كل شيء قدير.

اللهم! انصر دينك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم. اللهم! أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، واختم لنا جمعياً بالشهادة في سبيلك. اللهم! عاملنا بما أنت له أهل ولا تعاملنا بما نحن له أهل. اللهم! زدنا بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا أفرغ علينا صبراً، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم! اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، واجعلنا وإياه ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

عباد الله: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56].

اللهم! صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

وارض اللهم عن صحابته الكرام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى بقية العشرة المبشرين بالرضوان، وعلى المهاجرين الأنصار، وعلى جميع الصحب الكرام، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.


1 رواه ابن ماجة وأبو داود، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة رقم (4005) وصحيح أبي دواد رقم (3644).

2 رواه الطبراني في المعجم الكبير (3719)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم(870).

3 الاستقامة (2/ 247).

4 رواه البخاري في الأدب المفرد (970)، وحسنه الألباني.

5 سنن أبي داود (2932)، وصححه الألباني.