معنيون بتحقيق رسالة المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، أما بعد:
فقد يتصور الكثير من المهتمين بشؤون المساجد، أن رسالة المسجد يتيمة الاعتناء مقصورة الاهتمام، لا يسعى في تحقيقها، والقيام بدروها، إلا ذلك الإمام الذي يقبع بين محرابها، يتقدم الناس عندما يؤذن بدخول وقت الصلاة, فهذا الذي نصبه الناس لإمامتهم في الصلوات هو الذي تناط بشخصه كل ما من شأنه يخص رسالة المسجد – العلمية، الثقافية، الدعوية، الاجتماعية، التربوية، الإيمانية…- والحقيقة أن هذا الفهم عقيم وقاصر وربما نقول ظالم -إن لم نجحف في التعبير- والواقع يؤكد خلافه، وإن كان لا بد من التسيلم بأن الدور المناط به يشكل حيزاً لا يمكن تجاهله.
فكلنا يعلم أن معايير انتقاء الأئمة في غالب بلدان العالم الإسلامي، غدا مبنياً على أسس صوتيه وجمالية، وربما عصبية ومذهبية، فحسن الصوت ونديه هو غالباً ما يتصدر محراب الإمامة، وقد لا يكون فيه تلك الأهلية؛ لأن يتحمل على عاتقه رسالة المسجد المقدسة.
والمساجد في الحقيقة جامعات متكاملة أرفع من أن يحجر دورها لتصبح محصورة في إمامة الناس، ثم ينصرف الكل إلى سبيله.
ولذا وددنا أن نلفت النظر إلى أولئك الجنود الربانيين في ساحة الصحوة المباركة، الذين تشرب لهم أعناق المساجد لتحتضنهم بين أكنافها، وتتشرف محاريبها أن تضمهم وتفتح لهم قلوبها، فهم بحق أولى الناس وأحق الخليقة لحمل رسالة المسجد السامية.
لنعود فنقول من هم أولئك المعنيون بتحقيق رسالة المسجد قبل غيرهم:
إنّ مما يجب التسليم به سلفا أن العلماء قبل غيرهم هم المعنيون برسالة المسجد، ثم طلابهم الأمثل فالأمثل، وذلك على النحو التالي:
1- العلماء والمشايخ الكبار:
لا شك أن العلماء هم أولى وأول من يقوم بمهام رسالة المسجد، لكن لا يعني ذلك أن أشخاص العلماء هم المنفذون لكل عمل يتعلق بذلك، بل الأمر الطبيعي والمنطق السليم أن يبقى العلماء يقومون بدورهم من جانب، ويوجهون من دونهم من جانب آَخر، وتحت نظر العلماء وأمرهم وقيادتهم وريادتهم تقوم فئات أخرى من طلاب العلم والمعلمين، الموثوق بهم بتحقيق الرسالة الشرعية للمسجد.
ولعل من أبرز السلبيات التي جابت رحاب الساحة الإسلامية، ونكلت بقوتها، وفتت في عضدها هو ما ترتب على عدم تصدر المشايخ، أو تخلف بعضهم عن التوجيه المباشر للشباب وطلاب العلم والعاملين في الدعوة والحسبة، مما دعاهم أن يتتلمذوا على من هم دونهم، أو يتتلمذ بعضهم على بعض، أو يتلقوا منهجهم وفكرهم من الكتب والأشرطة والوسائل الأخرى، بلا أخطمة ولا أزمة، بل ربما تلقى بعضهم عن أهل الأهواء، وعن حدثاء الأسنان، وسفهاء الأحلام، فاتخذوا رؤساء جهالاً، وكثر بينهم التعالم والغرور والقدح في الأئمة والمشايخ، وقل الفقه في الدين، وقل الأدب.
ومن المؤسف المخيف أن تجد بين الناس اليوم نزعات من أهل الأهواء، بدأت لتحول بين الأمة وبين علمائها ومشايخها، وتنزع الثقة بالمشايخ، وباعتبارهم الشرعي، وأثرهم الاجتماعي، بقصد وبغير قصد، وتشكك الجيل في جدارتهم وقيادتهم وفي ريادتهم وولايتهم في الأمة، وهذه النزعات بعضها عن منطلقات بدعية، أو مفاهيم خاطئة، والبعض الآخر عن جهل بالحقوق الشرعية للعلماء، وقلة فقه في الدين، وقواعد الشرع ومقاصده، لا سيما من أولئك المثقفين والشباب الذين تربوا بعيدا عن مجالس العلماء ومحاضنهم، فإن هذا الجفاء أحدث الوحشة والفصام، ولن يتم استدراك الأمر إلا بتصدر العلماء ومن خلال المسجد أولًا: فهي مأوي كل موحد على ظهر هذا الكون، ثم بالوسائل الأخرى.
وأهم الأمور التي يمكن أن يحققها العلماء، ويؤدوها للمجتمع والأمة من خلال المسجد ما يلي:
– الإمامة وما يتبعها ويلحق بها.
– الخطابة في الجمعة والأعياد ونحوها.
– الفتاوى.
– الدروس والحلق.
– المحاضرات والندوات.
– الكلمات والتوجيهات والمواعظ.
– سائر أعمال الحسبة الأخرى، التي يمكن أن تتحقق من خلال المسجد حسب نظر المشايخ.
الفئة الثانية: القضاة، وهم غالباً من العلماء:
فإنه يجب أن يتولى القاضي مهامه الشرعية من تعليم الناس أصول دينهم، ومهمات الأحكام والفتوى، والدروس الشرعية، وتوجيه الناس، والإصلاح بينهم، والإسهام في معالجة مشكلاتهم الاجتماعية، والتنسيق مع الجهات المسؤولة في البلد؛ لدفع كل ما هو من مصالح البلد في الدين هذا -أعني الإفادة من القضاة في نشر العلم والفتوى والدعوة -مما ينبغي أن تعنى به الوزارة بالتنسيق مع وزارة العدل ودار الإفتاء.
3- خريجو الكليات الشرعية والجامعات والمعاهد العلمية:
وهم كثيرون ومتوافرون في أنحاء كثيرة لا تكاد تخلو منهم قرية أو هجرة، فضلا عن المدن، وهم ما بين أئمة وقضاة ومعلمين وكتاب عدل، وموظفين، وفيهم ومنهم علماء وطلاب علم كبار، وسائرهم في العموم يخضعون لتوجيه العلماء والمشايخ. أو كذلك يجب أن يكونوا.
فواجب العلماء -حفظهم الله – أن يوجهوا هذه الفئات، ويفيدوا من طاقاتهم في بعث رسالة المسجد في إرشاد الناس وتوجيههم، وتعليمهم أمور دينهم، ومساعدتهم في حل مشكلاتهم، ونحو ذلك.
4- سائر طلاب العلم وشباب الدعوة:
وهم تلك البذرة المباركة من الشباب الذين تربوا على أيدي المشايخ، ونهلوا من علمهم ونهجوا نهجهم، فهؤلاء ثروة عظيمة يجب العناية بها، وتعليمها وتوجيهها، وتسخير طاقاتها فيما ينفع الأمة ويخدم المجتمع، وينمي الخير بين الناس.
فمن مهام العلماء الإفادة من طاقات الشباب في تحقيق رسالة المسجد، وليس من الطبيعي ولا من المرضي أن تكون أعمال الشباب وطاقاتهم في الدعوة والتربية والحسبة بمعزل عن المشايخ، وإذا حدث ذلك – لا قدر الله- أعني الفصام بين المشايخ والشباب، فسيؤدي ذلك إلى نشوء الأهواء والتعالم والفتن والافتراق، وهذه هي الحالقة، وهي الكارثة. نسأل الله أن يقينا شرها.
وقد كان السلف لا يسمحون لغير العلماء وطلاب العلم الثقات، بالتصدر لنشر العلم أو الوعظ والإرشاد، وكانوا يسمون أولئك الذين يعظون الناس بالحكايات والأقاصيص التي لا أصل لها، ويتكلمون بغير علم ولا فقه: "القصَّاص" وكانوا يخرجونهم من المساجد، ولا يأذنون لهم بالكلام فيها، كما كان يفعل عبد الله بن عمر، وعلي بن أبي طالب وغيرهما رضي الله عنهم.
ولكن هذا لا يعني عدم السماح لطالب العلم الموثوق بدينه، وعلمه بالإرشاد والوعظ، لكن لذلك شروطه وضوابطه التي يعرفها أهل العلم.
وختاماً نقول:
أن هؤلاء جميعا، تقوم على كواهلهم، وتحمل فوق عواتقهم، ويلزمهم السعي الحثيث الجاد، والعمل الدؤوب المضني لتحقيق الرسالة الربانية للمسجد، -وربما يدخل في العملية غيرهم- إلا أنهم الأقدم والأولى، وقد قيل في المثل: ما حملته الرجال خف، ونحن نرى في شؤون الأمة العامة كلما اتحدت الجهود، واشتركت الطاقات، كلما أثمر العمل، وكان أبرك في النتائج، فكيف والشأن والموضوع مع أعظم البقاع، وأشرف الأماكن، وأقدس الدور.
نسأل الله بمنه وكرمه، أن يحفظ علماءنا ودعاتنا، وأن ينفع بهم أمة محمد، وأن يسخرهم لهذا الدين حملة لألويته، قادة في ميادين دعوته، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، وصلى وسلم وبارك على النبي والنذير البشير.
والحمد لله رب العالمين.