المسجد يشتكي (2)

المسجد يشتكي (2)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فالمسجد أسسه النبي صلى الله عليه وسلم على التقوى، وعلى ما يرضي المولى؛ فكان أحق أن يقوم فيه أهل الإيمان {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}[التوبة: 108]، بنيت المساجد لنقيم فيها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لتكون خير بقعة يعبد الله فيها، فيقدم فيها حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وكيف لا يكون ذلك وهي ما بنيت إلا لله عز وجل {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجن: 18]، وما جاءنا حكم الله ولا شريعته إلا عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فلا هدي إلا هديه، ولا اتباع إلا له، ولا عمل إلا بسنته صلى الله عليه وسلم.

لكن – وللأسف الشديد – فإننا نرى بيوت الله عز وجل دخل فيها ما لم يشرعه الله، ولم يسنه رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يعارض ذلك كله، فترى البدع تقتحم بنَـتَنِها مساجد الله المطهرة؛ يتبجح أهلها بها؛ بدع وخزعبلات، أهازيج وهزات، رقصات وصيحات، كل هذا في المسجد .. وها هو يشتكي: "لقد ضقت بهذه البدع ذرعاً، أفسدَت جمال أرجائي، عكرت صفاء زُلالي، أذهبت عني السكينة، حرمتني من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ألا يخشى هؤلاء أن أقف خصيماً لهم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة؛ أقول: يا رب هؤلاء عصوك! أمرتَهُم أن يطيعوا رسولك فعصوه، وأنت القائل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[التغابن: 18]، وقد أمرهم رسولك بالتمسك بسنته فما استجابوا؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي يرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))1، يا رب أتوا بما لم يأت به نبيك الكريم، ولا صحابته الراشدين، وبدل أن يدخلوا بيتك خاشعين؛ ويقدمون بين يديك طاعة تنفعهم يوم الحشر عليك؛ إذا بهم يقدمون ما لا ينفعهم بل يضرهم، ما لا يقبل منهم بل يُرد على وجوههم، وكأنهم ما سمعوا ما قاله رسولك صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))2".

فإلى كل من تشتكي بيوت الله عز وجل منه: اعلم رحمك الله أن خير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو القائل: ((فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))3، وزاد النسائي: ((وكل ضلالة في النار))؛ فما بالك وأنت في بيت الله – أو في غير بيت الله – تأتي بأذكار مبتدعة، أما تستحي من الله تعالى تخالف أمره وأنت في بيته، ولعل أحدنا يستقبح المعصية في المسجد – وهذا صحيح ففعل المعصية قبيح، وفعلها في المسجد أقبح -، فكيف بمن يبتدع فيه ومعروف أن جنس البدعة أشد من جنس المعصية قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لأن يلقى اللهَ العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء"4.

فهذه دعوة إلى تنزيه بيوت الله عز وجل من كل ما يخالف شريعته، بل مما يطعن في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ورسولنا الكريم قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وقد أتم الله به هذا الدين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}[المائدة: 3]، وكلنا يسمع أو يرى ما يجري في مساجد الأمة الإسلامية من بدع وضلالات حتى غدت مراتع لمن يدعو غير الله تعالى ويستغيث بغيره

ذهبت سكينتها وذهب وقارها *** وأتوا برقصهم وبالهزات

جاءوا بما لم يأتنا من ربنا *** آذوا بيوت الله بالظلمات

والسنة الغراء تشكو هجرهم *** وأتوا بما يستجلب الحسرات

أفلا يخافون اللقاء بربنا *** يوم القيامة مجمع الآهات

حين المساجد تشتكي خصماءها *** يا رب هذا من أتى حرماتي

دخلها من الموالد والصيحات ما يستغاث فيها بغير رب الأرض والسموات، بدع في الأذان، وبدع في الأذكار، وبدع في قراءة القرآن… إلى آخر قائمة البدع الموجودة.

فيا أخي في الله: قبل الورود على الله عز وجل لا بد من مراجعة الحسابات، وعرض أعمالنا على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان من خير قبلناه، وما كان من شر رددناه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: 7].

والله أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل.


1 أخرجه الطبراني (617)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 238).

2 رواه البخاري برقم (2550)، ومسلم برقم (1718).

3 رواه مسلم برقم (867).

4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (3/76).