الخازن المسلم الأمين
الحمد لله الذي أتم علينا نعمته، وأكمل لنا الدين، وشرع لنا من الأعمال الصالحات أنواعاً وأصنافاً لنتقرب بها إلى رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أكرم الأكرمين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على جميع المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيراً.
نص الحديث:
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخازن المسلم الأمين الذي يُنْفِذُ – وربما قال: يعطي-، ما أُمر به كاملاً مُوَفَّرًا، طيب به نفسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به أحدُ المتصدِّقَيْنِ)1.
صحابي الحديث:
أبو موسى الأشعري: هو عبد الله بن قيس، أسلم قديماً بمكة، ثم رجع إلى بلاد قومه فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين: جعفر بن أبي طالب وأصحابه من أرض الحبشة.
ولى عمر بن الخطاب أبا موسى البصرة، فافتتح أبو موسى الأهواز، ولم يزل على البصرة إلى صدر من خلافة عثمان، ثم لما دفع أهل الكوفة سعيد بن العاص ولوا أبا موسى، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه، فأقره فلم يزل على الكوفة حتى قتل عثمان. مات أبو موسى سنة اثنتين وخمسين، وقيل غير ذلك2.
معاني مفردات الحديث:
قوله: (كاملاً موفراً) تاماً لا ينقص منه شيئاً، وأن يعطيه لمن أمر بدفعه إليه.
قوله: (طيب به نفسه) راض بذلك غير حاسد لمن أعطاه إياه.
قوله: (أحد المتصدِّقَيْنِ) أي له مثل أجر المتصدق.3 و(أحد) خبر للمبتدأ (الخازن) فكأن العبارة هكذا: (الخازن المسلمُ الأمين أحدُ المتصدقين)، والكلام بعد (الأمين) وصف له.
شرح الحديث:
إذا أراد الرجل الصالح الخير، هيأ الله له أسبابه من كل ناحية، فنفسه طيبة، تجود بالكثير، ولا تحقر القليل، ويرى عليه حقاً لكل بائس وفقير، وقد يرزقه الله مالاً يسع كثرة الإنفاق في سبيل الله، ولا تأتي على نَفَاده وجُودِه البر والإحسان، وله بطانة صالحة، وأسرة طيبة تعينه على الجود والسخاء، فيصبح بعد ذلك كريماً لا يبالي بما أنفقت زوجته وما تصدقت به من درهم، أو ثوب، أو لقمة خبز، ولو من القوت أو الملابس الكريمة، ولا يحاسبها على ما تُنَاوِلُه المسكين، وجيرانه المستحقين قلَّ ذلك أو كثر، ويسره من الخازن طلاقة وجهه وأمانته، وسروره بالخير إذا أمر بالإنفاق والعطاء، وهذا ولا شك سعيد في دينه وآخرته، مصدق بالحسنى، مُيَسَرٌ لليسرى، وأهله سعداء.
وإذا سخر الإله سعيداً *** لأناس فإنهم سعـداء
قوله في الحديث: ((الخازن المسلم الأمين)) إلى قوله: ((طيبة به نفسه)) هذه الأوصاف لا بد من اعتبارها في تحصيل أجرة الصدقة للخازن، فإنه إذا لم يكن مسلماً لم تصح منه نية التقرب، وإن لم يكن أميناً كان عليه وزر الخيانة، فكيف يحصل له أجر الصدقة، وإن لم تكن نفسه بذلك طيبة لم يكن له نية فلا يؤجر.
قوله: ((أحد المتصدِّقَيْنِ)) قال القرطبي رحمه الله: لم نروه إلا بالتثنية، ومعناه أن الخازن بما فعل متصدق، وصاحب المال متصدق آخر، فهما متصدقان، قال: ويصح أن يقال على الجمع فتكسر القاف، ويكون معناه: أنه متصدق من جملة المتصدقين.
والحديث يدل على أن المشاركة في الطاعة توجب المشاركة في الأجر، ومعنى المشاركة أن له أجراً كما أن لصاحبه أجراً، وليس معناه أنه يزاحمه في أجره، بل المشاركة في الطاعة في أصل الثواب، فيكون لهذا ثواب، ولهذا ثواب، وإن كان أحدهما أكثر، ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء بل قد يكون ثواب هذا أكثر وقد يكون عكسه، فإذا أعطى المالك خازنه مائة درهم، أو نحوها ليوصلها إلى مستحق للصدقة على باب داره فأجر المالك أكثر، وإن أعطاه رمانة أو رغيفا أو نحوهما حيث له كثير قيمة ليذهب به إلى محتاج في مسافة بعيدة، بحيث يقابل ذهاب الماشي إليه الأكثر من الرمانة ونحوها فأجر الخازن أكثر.
وقد يكون الذهاب مقدار الرمانة فيكون الأجر سواء.
قال ابن رسلان : يدخل في الخازن من يتخذه الرجل على عياله من وكيل وعبد وامرأة وغلام، ومن يقوم على طعام الضيفان4.
وقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة، كان لها أجر ما أنفقت، ولزوجها أجر ما اكتسب، ولخازنه مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض))5.
قوله: ((أنفقت المرأة)): أي تصدقت كما في رواية للبخاري. وقوله: ((غير مفسدة)): أي غير مسرفة في التصدق، وهذا محمول على إذن الزوج لها بذلك صريحاً أو دلالة. وقيل: هذا جار على عادة أهل الحجاز فإن عاداتهم أن يأذنوا لزوجاتهم وخدمهم بأن يضيفوا الأضياف، ويطعموا السائل والمسكين والجيران، فحرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته على هذه العادة الحسنة، والخصلة المستحسنة.
وقوله: ((لا ينقص بعضهم أجر بعض)): أي شيئا من النقص، أو من الأجر، أي من طعام أعد للأكل، وجعلت متصرفة وجعلت له خازناً، فإذا أنفقت المرأة منه عليه وعلى من يعوله من غير تبذير كان لها أجرها، وأما جواز التصدق منه فليس في هذا الحديث دلالة عليه صريحاً. وقال محيي السنة: عامة العلماء على أنه لا يجوز لها التصدق من مال زوجها بغير إذنه وكذا الخادم. والحديث الدال على الجواز أُخرج على عادة أهل الحجاز يطلقون الأمر للأهل والخادم في التصدق والإنفاق عند حضور السائل ونزول الضيف كما في الصحيح للبخاري: (لا توعي فيوعي الله عليك)6.7
قال ابن العربي: اختلف السلف فيما إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها فمنهم من أجازه لكن في الشيء اليسير الذي لا يؤبه له، ولا يظهر به النقصان، ومنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج ولو بطريق الإجمال، وهو اختيار البخاري، ويحتمل أن يكون ذلك محمولاً على العادة، وأما التقييد بغير الإفساد فمتفق عليه، ومنهم من قال: المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه وليس ذلك بأن يفتئتوا على رب البيت بالإنفاق على الفقراء بغير إذن، ومنهم من فرق بين المرأة والخادم، فقال: المرأة لها حق في مال الزوج والنظر في بيتها، فجاز لها أن تتصدق بخلاف الخادم، فليس له تصرف في متاع مولاه، فيشترط الإذن فيه، وهو متعقب بأن المرأة إذا استوفت حقها فتصدقت منه فقد تخصصت به، وإن تصدقت من غير حقها رجعت المسألة كما كانت. والله أعلم8.
وجاء عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله ليس لي مال إلا ما يدخل الزبير بيته، أفأرضخ منه؟ قال: (ارضخي بما استطعت، ولا توكي فيوكي الله عليك)9.
وعلى المرأة إذا أنفقت أن ترعى حال زوجها، فلا تعمد إلى كل شيء في البيت فتخرجه، ولا تأخذ شيئاً يعز عليه وتتصدق به، فإن ذلك يغضبه ويؤذيه، ويحمله على منعها من الخير؛ وليس بلازم أن تكون الصدقة بالكبير أو من الكثير، ولكنها بما تيسر.
من فوائد الحديث:
1. الأوصاف المذكورة في الحديث شروط لحصول هذا الثواب، فينبغي أن يعتنى بها ويحافظ عليها.10
2. لا يجوز لأحد أن يتصدق من مال غيره بغير إذنه.
3. يجوز للمرأة أن تأخذ بدون إذن الرجل إذا كان بخيلاً لا ينفق عليها وعلى ولدها ما يكفيها، وإذا كان لها النظر في بيتها جاز لها الصدقة بما لا يكون فيه إضاعة للمال، ولا إسراف فيه، وهذا يتحدد بمقدار العرف والعادة، وما تعلم أنه لا يؤلم زوجها، وتطيب به نفسه. فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنها تؤجر على ذلك، ويؤجر زوجها بما كسب، ويؤجر الخادم الممسك لذلك، وهو الخازن المذكور في الحديث، إلا أن مقدار أجر كل واحد منهم لا يعلمه إلا الله، غير أن الأظهر أن الكاسب أعظم أجرًا11.
فهذا بعض ما يتعلق بالحديث النبوي الشريف.. والله أعلم.
1 رواه البخاري برقم (1371) ومسلم برقم (1023).
2 الإستيعاب في معرفة الأصحاب: لابن عبد البر (1/568).
3 صحيح البخاري (2/521).
4 نيل الأوطار (6/458).
5 رواه البخاري برقم (1359) ومسلم (1024).
6 رواه البخاري (1367) ومسلم (1029).
7 عون المعبود (4/93).
8 فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (3/303).
9 رواه البخاري (1367) ومسلم (1029)، والطبراني في الكبير (20274) واللفظ له.
10 شرح النووي على مسلم (3/469).
11 شرح ابن بطال على البخاري (5/474).