المسجد يشتكي (1)

المسجد يشتكي (1)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين .. أما بعد:

سنعيش في هذه السطور مع شكوى ترتفع كل يوم ولا مجيب لها، تنادي عدة مرات ولا منصت لها، إنها شكوى المسجد!!

وهل المسجد يشتكي!!

نعم المسجد يشتكي، المسجد يأن، المسجد يتألم .. يشتكي مِن مَن؟ يأن ويتألم من ماذا؟ هذه هي القضية التي سنعيشها.

إن المسجد معظَّم في هذا الدين، وله قداسته واحترامه، فترى المسلمين يتنافسون على الاهتمام به: بنايةً، ورعايةً، ونظافةً، وقد جعل الله عز وجل على ذلك الأجر العظيم فعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بنى لله مسجداً؛ بنى الله له بيتاً في الجنة))1، وجعل الله الأجر لمن سار إلى المساجد، ولمن صلى فيها، ولمن تعلم فيها، فكان لابد علينا أن نهتم بها، وأن نعطيها حقها، لكننا قصرنا فهي اليوم تشتكي.

فمع المساجد ومع شكواها، وما تعاني منه؛ علنا نوفي لها حقاً، أو نحقق لها طلباً، سائلين من الله العون والسداد.

لماذا الهجر؟

بيوت الله عز وجل بنيت لكي يعبد الله فيها، لكي نعمرها بالصلاة والذكر، بترتيل التنزيل، نعمرها بالعمل الصالح، نعمرها بالمحبة والوداد، فما بالنا نرى المساجد تكثر، والمصلين ينقصون بل ينعدمون أحياناً، الأذان ينتشر منها يوماً بعد يوم – ولله الحمد – لكننا نراها خاوية!

منائرنا علت في كل ساح *** ومسجدنا من العباد خالي

وصيحات الأذان بكل حي *** ولكن أين صوت من بلال

ترى البيوت تحيط بالمسجد من كل اتجاه، والحي مزدحم بالسكان، وترى الناس يذهبون ويأتون؛ فتستبشر خيراً؛ فإذا دخلت المسجد ترى عكس المتوقع، فما في المسجد إلا القليل من كبار السن، وثلة من الشباب والأطفال!

إنا لنستحيي من الله عز وجل أن ينظر إلينا وقد فرطنا في بيوته، زاهدين في الأجر الذي ينتظرنا إن أتينا إليه، فهلا وقفنا مع أنفسنا نحاسبها ونعاتبها: يا نفس أليس الله جل في علاه قد جعل في كل خطوة نخطوها أجراً عظيماً؛ فخطوة ترفع درجة، وخطوة تضع سيئة كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله؛ كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة))2، كل هذا ونحن في غفلة.

كم من الخطايا نرتكبها، وكم من الذنوب نسوِّد بها صحائفنا، ألا نمشي إلى بيوت الله كي تحط عنا سيئاتنا؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات))؟  قالوا: بلى يا رسول الله!! قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط؛ فذلكم الرباط؛ فذلكم الرباط))3.

ألا نعاتب هذه النفس التي ركنت إلى الراحة الزائلة، وتكاسلت عن الراحة الأبدية؛ فالذي اتصل ببيوت الله عز وجل وأحبها، وتعلق قلبه بها؛ فإنه في ساعة العسرة – يوم لا ظل إلا ظل الله -، والناس هناك في هلع وخوف؛ تراه قد استظل بظل الرحمن، منعماً مسروراً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال؛ فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه))4.

كم من الأجور المضاعفة ضيعناها! أتدري أن صلاة الجماعة تزيد عن صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة؛ فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة))5، ولو أن أحدنا قيل له: إن هناك صفقة يربح منها ألف ريال، وأخرى مضمونة يربح منها مئة ألف ريال، فإنه إن انصرف عن الثانية إلى الأولى حكم الناس عليه بالجنون {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}[البقرة: 61]، لا بد من مراجعة الحسابات.

كم من الخير يقسم في بيوت الله ونحن محرومون منه، كم من الرحمات تنزل ونحن بعيدون عنها، كم من قلوب فيها تخشع ونحن على قسوة قلوبنا مصرون.

إن أمتنا محتاجة إلى رجال يتخرجون من هذه البيوت العظيمة؛ رجال كأبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، رجال كخالد والمثنى، والقعقاع وسعد قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور: 36-37].

فقوموا بنا إلى بيوت الله عز وجل نعمرها بالصلاة، ونزينها بالترتيل، ونعطرها بذكر الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنكن من المشاءين إلى بيوت الله عز وجل، من أصحاب الصفوف الأوَلْ.

نسأل الله أن يجعلنا ممن تعلقت قلوبهم ببيوته، وأن يجعلنا ممن يسبح فيها بالغدو والآصال، والحمد لله رب العالمين.


1 البخاري (439)، ومسلم (533).

2 رواه مسلم برقم (666).

3 رواه مسلم برقم (251).

4 رواه البخاري برقم (1357)، ومسلم برقم (1031).

5 رواه البخاري برقم (619 )، ومسلم برقم (619).