الغلو والتنطع

الغلو والتنطع

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الله قد بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للأمة، وليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فما ترك خيرا إلا دلنا عليه، ولا شرا إلا حذرنا منه.

وإن مما أمر الله به في كتابه وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الاعتدالَ والوسطية، والابتعادَ عن الغلو والتنطع.

الغلو هو: مصدر غَلا في الأمر يَغْلو غُلَوًّا، أي جاوز فيه الحد1.

"الغلو اصطلاحاً هو: الإفراط في مجاوزة المقدار المعتبر شرعاً في أمر من أمور الدين، بمعنى تجاوز الحد الشرعي بالزيادة"2.

أسباب الغلو:

   "الإعراض عن شرع الله، وذكره وشكره، وظهور الفساد والظلم والمعاصي والمنكرات، ونحو ذلك مما يستجلب العقوبة من الله تعالى، وكل الأسباب تؤول إلى هذا السبب، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه: 124].

   قلة الفقه في الدين – أي ضعف العلم الشرعي-، أو أخذ العلم على غير نهج سليم، أو تلقيه عن غير أهلية ولا جدارة، والابتعاد عن العلماء وجفوتهم وترك التلقي عنهم والاقتداء بهم، والتلقي عن دعاة السوء والفتنة والالتفاف حولهم.

   شيوع الظلم بشتى صوره وأشكاله: ظلم الأفراد، وظلم الشعوب، وظلم الولاة وجورهم، وظلم الناس بعضهم لبعض، مما ينافي أعظم مقاصد الشريعة، وما أمر الله به، وأمر به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من تحقيق العدل ونفي الظلم، مما يُنمي مظاهر السخط والتذمر والحقد والتشفي في النفوس.

   محاربة التمسك بالدين والعمل بالسنن، والتضييق على الصالحين والمتمسكين بالسنة، والعلماء والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وبالمقابل التمكين لأهل الفسق والفجور والإلحاد، مما يعد أعظم استفزاز لذوي الغيرة والاستقامة.

   الجهل بالعلم الشرعي وقلة الفقه في الدين: فالمتأمل لواقع أكثر أصحاب التوجهات التي يميل أصحابها إلى الغلو والعنف يجد أنهم يتميزون بالجهل وضعف الفقه في الدين، وضحالة الحصيلة في العلوم الشرعية، فحين يتصدون للأمور الكبار والمصالح العظمى يكثر منهم التخبط والخلط والأحكام المتسرعة والمواقف المتشنجة.

   الخلل في مناهج بعض الدعوات المعاصرة: فأغلبها تعتمد في مناهجها على الشحن العاطفي، وتربي أتباعها على مجرد أمور عاطفية وغايات دنيوية: سياسية واقتصادية ونحوها، وتحشو أذهانهم بالأفكار والمفاهيم التي لم تؤصَّل شرعا، والتي تؤدي إلى التصادم مع المخالفين بلا حكمة، وسبب هذا ضيق العقل، وقصر النظر، وقلة الصبر، وضعف الحكمة.

   التشدد في الدين والتنطع، والخروج عن منهج الاعتدال في الدين الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ))3.     

   شدة الغيرة وقوة العاطفة لدى فئات من الشباب والمثقفين وغيرهم بلا علم ولا فقه ولا حكمة، مع العلم أن الغيرة على محارم الله وعلى دين الله أمر محمود شرعا، لكن ذلك مشروط بالحكمة والفقه والبصيرة، ومراعاة المصالح ودرء المفاسد، فإذا فقدت هذه الشروط أو بعضها أدى ذلك إلى الغلو والتنطع والشدة، والعنف في معالجة الأمور، وهذا مما لا يستقيم به للمسلمين أمر لا في دينهم ولا في دنياهم"4.

هذه بعض الأسباب التي أدت إلى ظهور الغلو والتنطع في الأمة الإسلامية وقد حدد الله عز وجل مرجع ومنشأ هذه الأسباب بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}[المائدة: 77]. وهذا أبرز أسباب الانحراف عن الطريق السليم والمنهج القويم في اتباع الدين.

أنواع الغلو:

من خلال النصوص الواردة في الغلو نجد أن الغلو على ثلاثة أنواع:

"الأول: الغلو في الدين، وذلك بالاعتقادات الباطلة كما فعل بعض أهل الكتاب، وعند المسلمين نجد كثيراً من الفرق الضالة التي غلت في دينها كالرافضة، والخوارج.

الثاني: الغلو في القرءان الكريم، وذلك بمجاوزة الحد في قراءته بالتطويل، والتطريح، والتشدق، والخروج المبالغ فيه.

الثالث: الغلو في العلم، وذلك الذي يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه، كما فعل أهل الكتاب قديماً، وكما يفعل كثير من الجهال في هذه الأيام"5.

وقد نهى الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الغلو والتنطع فمما جاء في النهي عنه:

قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}[المائدة: 77].

وقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[هود: 112].

وعَنْ ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: هَاتِ الْقُطْ لِي فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: ((بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ))6.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)) قَالَهَا ثَلَاثًا7.

هذه بعض النصوص التي تذم الغلو والتنطع، ولهذا فإن سلفنا الصالح -رحمهم الله- كانوا أول من امتثل، وانتهى عن الغلو والتنطع، فمما روي عنهم في ذم الغلو:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال عند قوله تعالى: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}[البقرة: 70]: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم8.

وعن عُبَادَةَ بْنَ نُسَىٍّ الْكِنْدِىَّ حين َسُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ مَاتَتْ مَعَ قَوْمٍ لَيْسَ لَهَا وَلِىٌّ، فَقَالَ: أَدْرَكْتُ أَقْوَاماً مَا كَانُوا يُشَدِّدُونَ تَشْدِيدَكُمْ وَلاَ يَسْأَلُونَ مَسَائِلَكُمْ.9

وقال ابن حجر: الْأَخْذ بِالْعَزِيمَةِ فِي مَوْضِع الرُّخْصَة تَنَطُّع،كَمَنْ يَتْرُك التَّيَمُّم عِنْد الْعَجْز عَنْ اِسْتِعْمَال الْمَاء فَيُفْضِي بِهِ اِسْتِعْمَاله إِلَى حُصُول الضَّرَر10.

قال ابن القيم: وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه، والغالي فيه كالوادي بين جبلين والهدى بين ضلالتين والوسط بين طرفين ذميمين فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد.11

علاج الغلو:

لاشك أن علاج هذه الظاهرة الخطرة لابد أن تقوم به كل أجهزة التربية والتثقيف من تعليم وإعلام وثقافة ومؤسسات دينية، وكلها على التوازي مع البيت والأسرة، وكل المجتمع.

ومن طرق علاج الغلو والتنطع والتشدد:

·   الاستقامة على دين الله، وهي الوسطية التي وصف الله الأمة بها، والتي استحقت أن تكون بها خير أمة أخرجت للناس، وأي انحراف عن هذه الوسطية هو ولوج في متاهات الغلو، الذي هو سبب لفساد الدين والدنيا.

·   العلم الشرعي، فالعلم الشرعي هو العاصم-بتوفيق الله- من الوقوع في كثير من الزلات، لذا جاء التأكيد عليه في القرآن والسنة، وتكاثرت أقول السلف في الحث عليه، قال صلى الله عليه وسلم: ((يرث هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين))12 فالبعد عن العلم والتقصير فيه من الأسباب العظيمة لسوء فهم الدين.

·       "الالتزام بمذهب السلف، وفهمه على وفق ما ورد عنهم، ونشره بين العامة، والتزامه.

·   تمكين العلماء الربانيين المخلصين، والمشهود لهم بالعلم والإخلاص والتجرد، وعدم التبعية، أو التعصب من توجيه الجماهير، وفتح القنوات الإعلامية لهم، وأن يكونوا مرجعية حقيقية صادقة مخلصة للحاكم والمحكوم13.

·   "محاسبة المجتمع، والدولة على ما يضخه الإعلام من انحراف خلقي، وما يخالف العقيدة والآداب، ومنع المساس بالدين وأهله، ومعرفة أن الحريات المنفلتة لا تولد إلا ردة فعل منفلتة غير منضبطة.

·   ضرورة العدل وإعطاء الناس حقوقهم: سواء كانت حقوقا مالية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو شخصية، والقضاء على الظلم أو تقليصه.

هذه بعض النقاط التي من خلالها يتم علاج الغلو والتنطع، وإنه لا يمكن معالجة أي ظاهرة من الظواهر إلا بمعرفة أسباب نشأتها، وظهورها، فإذا تبين أن التطرف والغلو سببه إما الجهل بأحكام الله، وإما اتباع الهوى، وإما الانحراف من خلال الحريات المفتوحة في المجتمع، أو الإفساد الإعلامي، إذا علمنا أسباب الغلو والتطرف سهل علينا وضع الحلول والدراسات لمعالجة هذه الظواهر التي هي في كثير منها وليدة واقع مرير كبر مع الأيام وتراكم عبر المواقف.

ولا شك أن عودة الشريعة حكما في العالم الإسلامي والخلافة الراشدة جامعة للأمة لهو كفيل في القضاء على كثير من مشاكل الأمة"14.

نسأل الله بمنه وكرمه أن يصلح أحوال المسلمين، ويردهم إليه ردا جميلا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 الصحاح في اللغة (2/24).

2 بحوث ندوة أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو (1/208).

3 رواه البخاري (38).

4 الغلو الأسباب والعلاج أ.د. ناصر بن عبد الكريم العقل بتصرف.

5 موسوعة نضرة النعيم (11/5115) بتصرف يسير.

6 رواه النسائي (3007)، وصححه الألباني.

7 مسلم (4823).

8 تفسير الطبري (2/204).

9 سنن الدارمي (1/147).

10 فتح الباري لابن حجر (1/62).

11 مدارج السالكين (2/496).

12 السنن الكبرى للبيهقي (20700) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/53).

13 بحوث ندوة أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو (1/424).

14 التطرف والغلو الأسباب – المظاهر – العلاج د . طارق محمد الطواري بتصرف.