كونوا شامة في الناس

كونوا شامة في الناس

 

كونوا شامة في الناس

 

الحمد لله الذي جعل لنا قدوة وأسوة حسنة، وسن لنا أحسن السنن، وبين لنا طريق السلامة من الفتن. وصلى الله على قدوة الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

عباد الله: كيف يكون المرء المسلم شامة وقدوة في الناس؟

لا بد بأن يكون نافعاً ومؤثراً ومصلحاً، وقدوة حسنة في الخير، داعياً إليه وعاملاً به. قال ابن الأعرابي: القدوة التقدم، يقال: فلان لا يقاديه أحد، ولا يماديه أحد، ولا يباريه أحد، ولا يجاريه أحد، وذلك إذا برز في الخلال كلها. لهذا جعل سبحانه وتعالى الأنبياء في المقام الأعلى من القدوة والأسوة. فهم القدوة، وأهل اليقين والأئمة لمن بعدهم من المتقين المتوكلين.

بل مدح الله – عز وجل – الذين يدعون ربهم أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير، وجعل ذلك من صفات عباد الرحمن، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (74) سورة الفرقان. وأخبر سبحانه عن إبراهيم ممتناً عليه أنه سيجعله إماماً وقدوة يقتدى به، فقال تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (124) سورة البقرة. والإمام: القدوة، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وللطريق: إمام، لأنه يؤم فيه للمسالك، أي يقصد.فالمعنى: جعلناك للناس إماماً يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون. فجعله الله تعالى إماماً لأهل طاعته، فلذلك اجتمعت الأمم على الدعوى فيه حتى صار وحده أمة:{إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} النحل: (120)

عباد الله: والله يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(21) سورة الأحزاب.

فقوله تعالى " أسوة " الأسوة القدوة. والأسوة ما يتأسى به، أي يتعزى به، فيقتدى به في جميع أفعاله، ويتعزى به في جميع أحواله، فلقد شج وجهه، وكسرت رباعيته عليه الصلاة والسلام.1 وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل، والعمل بالشرع، كما ورد؛ لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالماً.2 قال سيد: "وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة الممكنة التقليد، لأنه بشر منهم، يتسامى بهم رويداً رويداً؛ ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أن الله قد فرضها عليهم، وأرادها منهم؛ فيكون هو بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم3.

عباد الله: وقد أمر الله عباده بالتزام الخير والدعوة إليه قال تعالى: {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ} أمرهم سبحانه بتكميل الغير إثر أمرهم بتكميل النفس، ليكونوا هادين مهديين، على ضد أعدائهم، فإن ما قص الله تعالى من حالهم فيما سبق يدل على أنهم ضالون مضلون.

والمراد من الدعاء إلى الخير الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي، فعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه في قوله سبحانه:{وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكْر} من باب عطف الخاص على العام إيذاناً بمزيد فضلهما على سائر الخيرات.4

 عباد الله: إن من المهم جدًا في تبليغ الدعوة، وجذب الناس إلى الدين، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ القدوة الحسنة للداعية المسلم، وأفعاله الحميدة، وأخلاقه الزكية مما يجعله أسوة حسنة لغيره؛ فيقبلون عليه، لأن التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالكلام وحده.

فالقدوة الحسنة هي في الحقيقة دعوة عملية للإسلام، يستدل بها سليم الفطرة راجح العقل على فضائل الإسلام وأنه حق من عند الله.

وتأملوا عباد الله: إلى هذا الحديث الذي رواه ابْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ: اتَّخَذَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – :(إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ – فَنَبَذَهُ، وَقَالَ:- (إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا) فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ5. انظروا كيف أثر فيهم الفعل تأثيراً عجيباً أكثر من القول فنزعوا خواتمهم. لذا قال العلماء:’فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول’.

عباد الله: وليكون المسلم قدوة وشامة في مجتمعه لا بد أن تتوفر فيه صفات وأصول مهمة:

الأصل الأول:

الصلاح، وهذا يتحقق بثلاثة أركان:

الركن الأول: الإيمان: وتحقيق معنى التوحيد ومقتضياته من معرفة الشهادتين والعمل بمقتضاهما.

الركن الثاني:

العبادة: فيستقيم القدوة على أمر الله من الصلاة، والزكاة، والصيام، وسائر أركان الإسلام العملية، ويهتم بالفرائض والمستحبات، ويَجِدّ في اجتناب المنهيات والمكروهات. عاملاً بحديث:(وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ..)6.

الركن الثالث:

الإخلاص: بأن يكون مقصود العبد بأقواله وأعماله وجه الله، بعيدًا عن أغراض النفس وأغراض المخلوقين، بل يعمل ذلك عبودية خاضعاً تمام الخضوع لله، أمرًا ونهيًا ونظرًا وقصدًا. وإن النصح والإخلاص يرقى بالعبد الضعيف العاجز إلى رتبة القادر العامل، ففي غزوة العسرة من تبوك سجل القرآن الكريم هؤلاء الضعفاء الناصحين المخلصين في قوله سبحانه:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}(92) التوبة. وسجل لهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – هذا الموقف حين خاطب جنده الغازين في سبيل الله بخير هذه الطائفة بقوله:(إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ)7.

الأصل الثاني من الأصول المطلوب تحققها في القدوة: حسن الخلق: إذا كان الصلاح يتوجه إلى ذات المقتدى به ليكون صالحًا في نفسه قويمًا في مسلكه؛ فإن حسن الخلق يتوجه إلى طبيعة علاقته مع الناس، وأصول تعامله معهم، وإليه الدعوة النبوية في قوله – صلى الله عليه وسلم-: (… وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)8 .

عباد الله: وإن مما يجمع حسن الخلق خِلالٍ خمس:

 أولها الصدق: وتبرز أهمية الصدق وعظم أثره في مسلك القدوة في قوله – صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ)9.

ثانيها الصبر: الأزمات إذا استحكمت والضوائق إذا ترادفت لا دفع لها ولا توقّي – بإذن الله – إلا بالصبر ذلك أن: (…الصَّبْرُ ضِيَاءٌ…)10. ومَنْ أَوْلَى من الرجل الأسوة بتوطين نفسه على احتمال المكاره من غير ضجر، والتأني في انتظار النتائج مهما بعُدت. والصبر من معالم العظمة المحمودة، وشارات الكمال العالي، ودلائل التحكم في النفس وهواها، وهو عنصر من عناصر الرجولة الناضجة. فأثقال الحياة وأعباؤها لا يطيقها الضعاف المهازيل، والحياة لا ينهض بأعبائها ورسالتها إلا الأكفاء الصابرون، وقد استحقت فئة من بني إسرائيل الإمامة والريادة بصبرهم وحسن بلائهم:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} 24  سورة السجدة .

وأدركت بني إسرائيل حالة استحقوا بها ميراث الأرض المباركة، وكان درعهم في ذلك الصبر:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا …} 137 سورة الأعراف .

ولهذا -عباد الله- فإن نصيب ذوي القدوة والأسوة من العناء والبلاء مكافئًا لما أوتوا من مواهب، وما تحملوا من مشاق، يدل على هذا قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (أَشَدّ النَّاس بَلَاء الْأَنْبِيَاء ثُمَّ الْأَمْثَل فَالْأَمْثَل)11.

ثالثها الرحمة: الرحمة عاطفة حية نابضة بالحب للناس، والرأفة بهم، والشفقة عليهم. والرحمة المذكورة هنا يقصد بها: الرحمة العامة لكل الخلق، فيلقى المسلم الناس قاطبة وقلبه لهم بالعطف مملوء. إن الرحمة الخاصة عباد الله قد تتوفر في بعض الناس فيرّق لأولاده حين يلقاهم ويهشّ لأصدقائه حين يجالسهم، ولكن الرحمة المطلوبة من القدوة أوسع من ذلك وأرحب: (…ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ …)12 بل إن الرحيم تنال رحمته الحيوان من غير البشر، والله يثيب على هذه الرحمة، ويغفر بها الذنوب. فالذي سقى الكلب لما رآه يأكل الثرى من العطش؛ شكر الله له فغفر له، والمرأة البغي من بني إسرائيل سقت كلبًا كان يطوف حول بئر في يوم حار قد دلع لسانه من العطش فنزعت له خفها وسقته؛ فغفر لها. ولئن كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب.

رابعها التواضع: جبلت النفوس على كره من يستطيل عليها ويستصغرها، كما جبلت على النفرة ممن يتكبر عليها ويتعالى عنها، حتى ولو كان ما يقوله حقاً وصدقاً.

إن قلوبهم دون كلامه مغلقة، وصدورهم عن إرشاده ووعظه موصدة.

إن التواضع خلق يكسب صاحبه رضا أهل الفضل ومودتهم، ومَنْ أحق بهذا الخلق من رجل القدوة، فهو أنجح وسيلة على الائتلاف..

عباد الله: إن ابتغاء الرفعة، وحسن الإفادة من طريق التواضع هو أيسر الطريق وأوثقها؛ ذلك أن التواضع في محله يورث المودة، فمن عمر فؤاده بالمودة امتلأت عينه بالمهابة.

ويلتحق بهذا الأمر ويلتصق به: حديث المرء عن نفسه، وكثرة الثناء عليها، فذلك شيء ممقوت، يتنافى مع خلق التواضع وإنكار الذات، فينبغي لرجل الدعوة ومحل القدوة ألا يدَّعى شيئًا يدل على تعاليه. بل إن حقاً عليه أن يعرف أن كل ما عنده من علم أو مرتبة هو محضُ فضل الله عليه، فليتحدث بفضل الله لا بفضل نفسه.

أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذين كانوا موضع القدوة وأهل اليقين والأئمة لمن بعدهم من المتقين، وأن يوفقنا لفعل الخيرات، وترك المنكرات، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسائر إخوانه، أما بعد:

إخواني: خامس هذه الأخلاق العظيمة: الرفق: والرفق صفة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – التي رحم الله العباد بها؛ فاصطفاه لها، يقول الله – عز وجل – :{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} 159 سورة آل عمران .

وإليكم عباد الله إيراد من قبس النبوة في باب الرفق، وبيان أثره: يقول عليه الصلاة والسلام :(إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)13. وقال مخاطبًا عائشة – رضي الله عنها – :(عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ فَإِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ)14. وقد يحسن أن نخصّ الدعاة المقتدى بهم بخطاب عن الرفق أخذًا من نهج السلف؛ إذ أن هذا الميدان -ونحن نعيش الصحوة الإسلامية وأجواءها المباركة- نحتاج فيه إلى مزيد عناية، وفقه، وترفق: يقول عمر – رضي الله عنه – وهو على المنبر: ‘يا أيها الناس لا تُبغّضوا الله إلى عباده، فقيل كيف ذلك أصلحك الله؟ قال: يجلس أحدكم قاصًّا – أي: واعظاً – فيقول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه، ويقوم أحدكم إمامًا فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه’15. والرفق ذو ميادين فسيحة ومجالات عريضة:

فرفق مع الجهال: إما جهل علم، أو جهل تحضر، ولقد رفق النبي – صلى الله عليه وسلم – بالأعرابي الذي بال في المسجد، وتركه حتى فرغ من بوله وأمر أصحابه بالكف عنه، وألا يقطعوا عليه بوله، فلما فرغ دعاه النبي – صلى الله عليه وسلم – وأخبره أن المساجد لم تبن لهذا، وإنما هي لذكر الله والصلاة.

الأصل الثالث:

موافقة القول العمل: يقول الله – عز وجل – :{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ 2 كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} 3 سورة الصف . الصدق ليس لفظة تخرج من اللسان فحسب، ولكنه صدق في اللهجة، واستقامة في المسلك، الباطن فيه كالظاهر، والقول فيه صنو العمل .. هذا جانب. وجانب آخر: أن الناس والنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بمن علمت أنه يقول ولا يعمل، أو يعلم ثم لا يعمل، ولهذا قال شعيب عليه السلام:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } 88 سورة هود .

وجانب ثالث: هو أن كثيرًا من الناس لا يتوجه نحو العمل حتى يرى واقعًا ماثلاً، وأنموذجًا مطبقًا يتخذه أسوة، ويدرك به أن هذا المطلوب أمر في مقدور كل أحد. بل متى يكون المرء قدوة صالحة، وأسوة حسنة ما لم يسابق إلى فعل ما يأمر به من خير، وترك ما ينهى عنه من سوء؟! وقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ)16

وغير تقي يأمرُ الناس بالتقى *** طبيب يداوي الناس وهو عليلُ

وهنا مسألة هامة يحسن التنبيه إليها: وهي أن المسلم حتى ولو كان قدوة مترقيًا في مدارج الكمال قد يغلبه هوى، أو شهوة، أو تدفعه نفس أمارة بالسوء، أو ينزغه الشيطان، فتصدر منه زلة، أو يحصل منه تقصير، فإذا حدث ذلك فليبادر بالتوبة والرجوع، وليعلم أن هذا ليس بمانع من التأسي به والاقتداء.

وقد حدّث مالك عن ربيعة قال: سمعت سعيد بن جبير يقول:’لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر’ قال: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء’. وقد قال الحسن البصري لمطرف بن عبد الله بن الشخير: ‘يا مطرف عظ أصحابك، فقال مطرف: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل؛ فقال الحسن: يرحمك الله وأيُّنا يفعل ما يقول؟ لودَّ الشيطان أنه ظفر بهذه منكم، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر’.

اللهم إنا نعوذ بك من الكفر والفسوق والعصيان، ونعوذ بك من الهوى والطغيان، ونسألك الخشية والإنابة والخضوع بين يديك، وارزقنا التواضع والسكينة، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا واجعلنا من الراشدين، وصلِّ على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليماً كثيراً.


 


1 – تفسير القرطبي – (ج 14 / ص 155)

2 – فتح القدير – (ج 1 / ص 174)

3 – في ظلال القرآن – (ج 5 / ص 307)

4 – تفسير الألوسي – (ج 3 / ص 159) بتصرف

5 – صحيح البخاري – (ج 22 / ص 267- 6754 ) كِتَاب الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَاب الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

6 – صحيح البخاري – (ج 20 / ص 158 – 6021) كِتَاب الرِّقَاقِ بَاب التَّوَاضُعِ.

7 – صحيح البخاري – (ج 9 / ص 431 – 2627).

8 – سنن الترمذي – (ج 7 / ص 262 – 1910) ومسند أحمد – (ج 43 / ص 358 – 20392) وصحيح وضعيف الجامع الصغير – (ج 1 / ص 97) تحقيق الألباني: ( حسن ) انظر حديث رقم : 97 في صحيح الجامع .

9 – صحيح البخاري – (ج 19 / ص 45 – 5629 ) وصحيح مسلم – (ج 13 / ص 14 – 4719).

10 – صحيح مسلم – (ج 2 / ص 3 – 328 ).

11 – سنن الترمذي – (ج 8 / ص 417 – 2322 ). تحقيق الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم : 992 في صحيح الجامع .

12 – سنن الترمذي – (ج 7 / ص 161 – 1847)سنن أبي داود – (ج 13 / ص 103 – 4290). وصحيح الترغيب والترهيب – (ج 2 / ص 272 – 2256) – (حسن لغيره).

 13 – صحيح مسلم – (ج 12 / ص 486 – 4697).

14 – صحيح مسلم – (ج 12 / ص 487 – 4698).

15 – مصنف ابن أبي شيبة – (ج 6 / ص 240) شعب الإيمان للبيهقي – (ج 17 / ص 181 – 7916)

16 – صحيح البخاري – (ج 11 / ص 46 – 3027 كِتَاب بَدْءِ الْخَلْقِ بَاب صِفَةِ النَّارِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ