وقفات من سورة الحجرات
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن القرآن الكريم هو الدستور الذي لا يتغير ولا يتبدل، وهو الذي يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك كان من الواجب علينا أن نعمل به، وأن نتحاكم إليه، وأن نتدبره، وأن نقف عنده حدوده، وأن نمتثل أوامره، وأن نجتنب زواجره.
وسنقف بعض الوقفات مع بعض الآيات من هذه السورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية، سورة جليلة ضخمة، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة، ومن حقائق الوجود والإنسانية. حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقاً عالية وآماداً بعيدة؛ وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة؛ وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم، وقواعد التربية والتهذيب، ومبادئ التشريع والتوجيه، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات!1.
هذه السورة تسمى سورة الأخلاق؛ لاشتمالها على جملة من الآداب؛ الأدب مع الله، والأدب مع رسول الله، والأدب مع عباد الله المؤمنين.
الوقفة الأولى: الأدب مع الله جل جلاله؛ يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]. والأدب مع الله يتضمن وصفه تعالى بصفات الكمال، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، والتسليم لحكمه، والرضاء بقدره، والخضوع له، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومراقبته والتوكل عليه، ومحبته، والخوف منه، ورجائه، وشكره، والولاء له، والبراء من أعدائه، وما إلى ذلك مما يجب لله.
قال ابن سعدي: "هذا متضمن للأدب مع الله تعالى، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعظيم له، واحترامه، وإكرامه، فأمر الله عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان، بالله وبرسوله، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين خلف أوامر الله، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جميع أمورهم، وأن لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا يقولوا حتى يقول، ولا يأمروا حتى يأمر، فإن هذا حقيقة الأدب الواجب مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته، تفوته السعادة الأبدية، والنعيم السرمدي، وفي هذا النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها، كائنا ما كان"2.
الوقفة الثانية: الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. قال ابن القيم رحمه الله: "والقول الجامع في معنى الآية: لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو يفعل"3.
وقال ابن سعدي عند تفسيره لهذه الآية: "وهذا أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في خطابه، أي: لا يرفع المخاطب له، صوته معه، فوق صوته، ولا يجهر له بالقول، بل يغض الصوت، ويخاطبه بأدب ولين، وتعظيم وتكريم، وإجلال وإعظام، ولا يكون الرسول كأحدهم، بل يميزوه في خطابهم، كما تميز عن غيره، في وجوب حقه على الأمة، ووجوب الإيمان به، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به، فإن في عدم القيام بذلك، محذورًا، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر، كما أن الأدب معه، من أسباب حصول الثواب وقبول الأعمال. ثم مدح من غض صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن الله امتحن قلوبهم للتقوى، أي: ابتلاها واختبرها، فظهرت نتيجة ذلك، بأن صلحت قلوبهم للتقوى، ثم وعدهم المغفرة لذنوبهم، المتضمنة لزوال الشر والمكروه، والأجر العظيم، الذي لا يعلم وصفه إلا الله تعالى، وفي الأجر العظيم وجود المحبوب وفي هذا دليل على أن الله يمتحن القلوب بالأمر والنهي والمحن، فمن لازم أمر الله، واتبع رضاه، وسارع إلى ذلك، وقدمه على هواه، تمحض وتمحص للتقوى، وصار قلبه صالحًا لها ومن لم يكن كذلك، علم أنه لا يصلح للتقوى"4. والأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي محبته، وطاعته، وتوقيره، وعدم التقديم بين يديه، وخفض الصوت عنده، والتمسك بسنته، والإكثار من الصلاة عليه، وإكرام أهل بيته، ومحبة أصحابه، وما إلى ذلك مما يجب تجاهه عليه الصلاة والسلام.
قال ابن القيم: ومن الأدب معه: أن لا ترفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به أترى ذلك موجبا لقبول الأعمال ورفع الصوت فوق صوته موجبا لحبوطها5.
وقال في كتاب آخر: "فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم"6.
ومن الأدب معه: أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره؛ قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}[النور: 63]. وفيه قولان للمفسرين أحدهما: أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا بل قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول، أي دعاءكم الرسول.
الثاني: أن المعنى لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا، إن شاء أجاب وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد من أجابته، ولم يسعكم التخلف عنها البتة، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل أي دعاؤه إياكم.
ومن الأدب معه: أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط لم يذهب أحد منهم مذهبا في حاجته حتى يستأذنه؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}[النور: 62]. فإذا كان هذا مذهبا مقيدا بحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله وفروعه دقيقه وجليله هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل: 43].
ومن الأدب معه: أن لا يستشكل قوله بل تستشكل الآراء لقوله ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا، نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه وهو عين الجرأة"7.
الوقفة الثالثة: الأدب مع الخلق؛ يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6].
قال ابن سعدي: "وهذا أيضًا، من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه كذب ولم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا، ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير من الخوارج المعروفين بالصدق، ولو كانوا فساقًا"8.
ثم ضرب لذلك أدلة فمن ذلك التثبت في الأخبار، والصلح بين المسلمين في حال حصول الخلاف والمقاتلة بين طائفتين من المسلمين، ثم أرسى قاعدة من قواعد الدين، والتي ينبغي أن تكون شعارا لكل مسلم؛ فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10]. ثم ذكر مفسدات هذه الأخوة، وحذر منها؛ وهي السخرية واللمز، والتنابز بالألقاب، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات: 11]. ثم ذكر كذلك من مفسداتها: سوء الظن، والتجسس، والغيبة.
فالواجب الحذر من مفسدات الأخوة، والسعي في تقوية أسباب الأخوة..
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
1 في ظلال القرآن (6/488).
2 انظر" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (صـ 799).
3 إعلام الموقعين (1/55).
4 انظر" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ(799).
5 مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين(2/389).
6 إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/51).
7 مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/390).
8 راجع: "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ(799).