الغيرة على المحارم

الغيرة على المحارم

 

الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وقائد الغر المحجلين نبينا محمد بن عبد الله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فمن المعلوم أن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان وكرَّمه بأنواع الإكرام، وكان من آثار تكريم الله تبارك وتعالى للإنسان أن كرَّم المرأة بما غرسه في نفوس المسلمين من غيرةٍ عليها تتمثل في تلك العاطفة التي تدفع الرجل لصيانة المرأة وحمايتها عن كل مُحرَّم وشين وعار.

بل إن الغيرة صفة أساسية من صفات الرجال, حتى كان العرب من أشد الناس غيرة؛ وذلك لأنهم أشد الناس حاجة إلى حفظ الأنساب، بل قد وصل الحال بهم في الغيرة أن جاوزوا الحد، حتى كانوا يئدون بناتهم مخافة إلحاق العار بهم من أجلهن قال ابن القيم رحمه الله: "وقال علي بن نصر:

أفاتك أنت فاتكة بقلبي *** وحسن الوجه يفتك بالقلوب

أصونك عن جميع الناس يا من *** بليت بها فأضحت من نصيبي

وعن نفسي أصونك ليت نفسي *** تقيك من الحوادث والخطوب

وما حق الحسان علي إلا *** صيانتهن من دنس الذنوب"1

ويَعُدُّ الإسلامُ الدفاعَ عن العرض والغيرة على النساء جهاداً يُبذَلُ من أجله الدم، ويُضحَّى في سبيله بالمهجة، ويجازى فاعله بدرجة الشهيد في الجنة فعن سعيد بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد))2، بل يَعُدُّ الدين الإسلاميُ الغيرةَ من صميم أخلاق الإيمان، فمن لا غيرة له لا إيمان له، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أغير الخلق على الأمة فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: "لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح"، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((تعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدح من الله ومن أجل ذلك وعد الله الجنة))3, وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه))4، فهذه هي غيرة الإسلام على المحارم والأعراض المنبثقة من غيرة رب العباد، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس غيرة تطبيقاً لهذا المفهوم.

والغيرة على أنواع منها المحمود ومنها المذموم، وإن من أنواع الغيرة المحمودة: أنَفَةُ المحب وحمايته أن يشاركه في محبوبه غيره، ومن هنا كانت الغيرة نوعاً من أنواع الأثرة لا بد منه لحفظ الشرف، وصيانة العرض، وكانت أيضاً مثار الحمية والإباء، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "روضة المحبين" بعد أن ذكر أنواعاً من الغيرة منها المحمود ومنها المذموم: "وملاك الغيرة وأعلاها ثلاثة أنواع:

       غيرة العبد لربه أن تنتهك محارمه، وتضيع حدوده.

       وغيرته على قلبه أن يسكن إلى غيره، وأن يأنس بسواه.

       وغيرته على حرمته أن يتطلع عليها غيره.

فالغيرة التي يحبها الله ورسوله دارت على هذه الأنواع الثلاثة، وما عداها فإما من خدع الشيطان، وإما بلوى من الله كغيرة المرأة على زوجها أن يتزوج عليها"5, وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله: "فالغيرة المحبوبة هي ما وافقت غيرة الله تعالى، وهذه الغيرة هي أن تنتهك محارم الله، وهي أن تؤتى الفواحش الباطنة والظاهرة، لكن غيرة العبد الخاصة هي من أن يشركه الغير في أهله، فغيرته من فاحشة أهله ليست كغيرته من زنا الغير، لأن هذا يتعلق به، وذاك لا يتعلق به إلا من جهة بغضه لمبغضة الله, ولهذا كانت الغيرة الواجبة عليه هي في غيرته على أهله، وأعظم ذلك امرأته، ثم أقاربه، ومن هو تحت طاعته، ولهذا كان له إذا زنت أن يلاعنها لما عليه في ذلك من الضرر، بخلاف ما إذا زنا غير امرأته، ولهذا يحد قاذف المرأة التي لم يكمل عقلها ودينها إذا كان زوجها محصناً في أحد القولين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

فالغيرة الواجبة ما يتضمنه النهي عن المخزي، والغيرة المستحبة ما أوجبت المستحب من الصيانة، وأما الغيرة في غير ريبة – وهي الغيرة في مباح لا ريبة فيه – فهي مما لا يحبه الله، بل ينهى عنه إذا كان فيه ترك ما أمر الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن))6"7أ. هـ.

وقال الشاعر:

لا يأمنن على النساء أخ أخا *** ما في الرجال على النساء أمين

إن الأمين وإن تحفظ جهده *** لا بد أنَّ بنظرة سيخون

وكان من عادات العرب أنهم إذا وردوا المياه تقدم الرجال والرعاء، ثم النساء بعد ذلك بعد أن تصْدُر كل الفرق المتقدمة، حيث يغسلن أنفسهن وثيابهن، ويتطهرن آمنات ممن يزعجهن، فمن تأخر من الرجال عند الماء حتى تلقاه النساء فهو عندهم في غاية الذلة والمهانة، وهذا في أيام الجاهلية، يوم كان لا دين، أما اليوم فنجد المرأة هي التي تزاحم الرجال في كل مكان: في الشوارع والجامعات والمدارس، وتتجرأ عليهم، وتتقدم عليهم، وهي في أبهى زينة، وأحسن منظر؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.

والغيرة مظهر من مظاهر الرجولة الحقيقية، كيف لا وهي صيانة للأعراض، وحفظ للحرمات، وتعظيم لشعائر الله، وحفظ لحدوده، وهي دليل على قوة الإيمان، ورسوخه في القلب، ولقد رأينا هذا الخُلُق يستقر في نفوس العرب حتى الجاهليين الذين تذوقوا معاني هذه الفضائل، فربما قامت الحروب غيرة على المرأة وحميةً، وحفاظاً على عرضها.

ويأتي ضد الغيور الديوث الذي يعلم بالخبث في أهله – والعياذ بالله تعالى – فيقرُّ له، ولا يتمعر وجهه غضباً لذلك، وقد ورد الوعيد الشديد في حقه فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى))8, وهذا وعيد شديد لمن كان هذا حاله – نسأل الله تعالى العافية -، يقول ابن القيم رحمه الله: "ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله، والجنة عليه حرام، وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره، ومزينه لغيره، فانظر ما الذي حملت عليه قلَّة الغيرة، وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له"9.

وضعف الغيرة دليل على ضعف الإيمان, وذلك لأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وبقدر إيمان العبد تكون غيرته وتعظيمه حرمات ربه تبارك وتعالى، ومثل المعصية والغيرة كمثل الماء والنار، فكلما هاجت أمواج المعصية خبت نار الغيرة في القلب قال ابن القيم رحمه الله: "ومن عقوباتها – أي المعاصي – أنها تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن، فإن الغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة كما يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديد، وأشرف الناس وأعلاهم قدراً وهمة؛ أشدهم غيرة على نفسه وخاصته وعموم الناس، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أغير الخلق على الأمة، والله سبحانه أشد غيرة منه10".

ولو لم يكن في الذنوب والمعاصي إلا أنها توجب لصاحبها ضد هذه الصفات، وتمنعه من الاتصاف بها؛ لكفى بها من عقوبة, والذي ينظر إلى دول الكفر يدرك هذا، وما وصلوا إليه من تفسخ وعري حياة أشبه ما تكون بحياة الحيوانات, والمؤمن قوي الإيمان يغضب إذا أُنتهكت حرمات الله تبارك وتعالى، فعلى الإنسان أن يكثر من طاعة الله تبارك وتعالى  ليفوز برضاه، وأن يحفظ عرضه وأهله.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على طاعته، وأن يحفظ على المسلمين أعراضهم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.


1 روضة المحبين (ص314).

2 رواه أبو داود برقم (4772)؛ والترمذي برقم (1421)؛ وصححه الألباني في إرواء الغليل برقم (708).

3 رواه البخاري برقم (6980)؛ ومسلم برقم (1499).

4 رواه البخاري برقم (4925)؛ ومسلم برقم (2761) واللفظ لمسلم.

5 روضة المحبين (314).

6 رواه أبو داود برقم (567) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -؛ وأحمد في المسند برقم (5471)، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح؛ وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (530).

7 الاستقامة (2/7-8).

8 رواه النسائي برقم (2562)؛ وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي (2402).

9 الجواب الكافي (45).

10 الجواب الكافي (44).