إحياء المساجد (حسياً ومعنوياً)

إحياء المساجد .. حسياً ومعنوياً

 

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه .. أما بعد:

فلقد كان المسجد أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء دولته الإسلامية المجيدة، وهذا يبين لنا أهمية المسجد في الإسلام، فلقد كان المسجد النبوي هو الجامعة التي تخرج منها الأبطال الذين فتحوا قلوب العباد والبلاد بدعوة الإسلام، فلم تكن وظيفة المسجد مجرد مكان للصلوات الخمس، ولكنه كان مدرسة النبوة، ومنارة العلم؛ كان المسجد هو البوتقة التي انصهرت فيها قلوب الصحابة، وذاب فيها ما كان فيه من شرك وحقد وحسد، حتى صار الصحابة أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً.

يقول الشيخ مصطفى السباعي: فلما أن وصل رسول الله إلى المدينة كان أول عمل عمله بناء مسجد فيها، وهذا يدلنا على أهمية المسجد في الإسلام، وعبادات الإسلام كلها تطهير للنفس، وتزكية للأخلاق وتقوية لأواصر التعاون بين المسلمين ووحدة كلمتهم وأهدافهم، وتعاونهم على البر والتقوى؛ لا جرم إن كان للمسجد رسالة اجتماعية وروحية عظيمة الشأن في حياة المسلمين، فهو الذي يوحد صفوفهم، ويهذب نفوسهم. ويوقظ قلوبهم وعقولهم، ويحل مشاكلهم، وتظهر فيه قوتهم وتماسكهم ولقد أثبت تاريخ المسجد في الإسلام أن منه انطلقت جحافل الجيوش الإسلامية لغمر الأرض بهداية الله، ومنه انبعثت أشعة النور والهداية للمسلمين وغيرهم وفيه ترعرعت بذور الحضارة الإسلامية ونمت، وهل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وسعد وأبو عبيدة وأمثالهم من عظماء التاريخ الإسلامي إلا تلامذة المدرسة المحمدية التي كان مقرها المسجد1.

وقال محمد سعيد رمضان: إن من نظام الإسلام وآدابه شيوع آصرة الأخوة والمحبة بين المسلمين ولكن شيوع هذه الآصرة لا يتم إلا في المسجد، فما لم يتلاق المسلمون يومياً على مرات متعددة في بيت من بيوت الله، وقد تساقطت عما بينهم فوارق الحياة والمال والاعتبار، لا يمكن لروح التآلف والتآخي أن تؤلف بينهم. إن من نظام الإٍسلام وآدابه أن تشبع روح المساواة والعدل فيما بين المسلمين في مختلف شؤونهم وأحوالهم، ولكن شيوع هذه الروح لا يمكن أن يتم مالم يتلاق المسلمون كل يوم صفاً واحداً بين يدي الله عز وجل، وقد وقفوا على صعيد مشترك من العبودية، وتعلقت قلوبهم بربهم الواحد.

فمن أجل تحقيق هذه المعاني كلها في مجتمع المسلمين ودولتهم الجديدة أسرع رسول الله قبل كل شيء فبادر إلى بناء المسجد2.

لقد بادر الرسول إلى بناء المسجد لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين، وتنقي القلب من أدران الأرض ودسائس الحياة الدنيا، وتم المسجد في حدود البساطة، فراشه الرمال والحصباء، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدو وتروح، هذا البناء المتواضع البسيط هو الذي ربى ملائكة البشر ومؤدبي الجبابرة، وملوك الدار الآخرة. في هذا المسجد أذن الرحمن لنبي يؤم بالقرآن خيرة من آمن به، أن يتعهدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل.

إن مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي، تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي فهو ساحة للعبادة ومدرسة للعلم؛ وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام؛ لكن الناس –لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة- استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة، تضم مصلين أقزاماً !!

أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام…

والمسجد الذي وجه الرسول همته إلى بنائه قبل أي عمل آخر بالمدينة ليس أرضاً تحتكر العبادة فوقهم؛ فالأرض كلها مسجد، والمسلم لا يتقيد بمكان.

إنما هو رمز لما يكترث له الإسلام أعظم اكتراث، ويتشبث به أشد تشبث؛ وهو وصل العباد بربهم وصلاً يتجدد مع الزمن، ويتكرر مع آناء الليل والنهار، فلا قيمة لحضارة تذهل عن الإله الواحد، وتجهل اليوم الآخر، وتخلط المعروف بالمنكر، والحضارة التي جاء بها الإسلام تذكر أبداً بالله وبلقائه، وتمسك بالمعروف، وتبغض في المنكر، وتقف على حدود الله.

ولقد شاهد يهود المدينة ومشركوها هذا الرسول الجديد يحتشد مع صحبه في إقامة المسجد، يمهده للصلاة، فهل رأوا سيرة تريب أو مسلكاً يغمز؟!!3

إن المسجد في الإسلام يستمد مكانته السامية وشرفه العظيم من صلته بالإسلام وارتباطه بتعاليمه وتطبيقاته العملية باعتباره وسيطاً وكونه رمزاً وشعيرة من شعائر الإسلام.

أمر الله ببنائه ورفع عمده، كما أمرهم أن يحققوا عمارته الحقيقية بعبادته فيه، وقد جعل من أهم وظائفه ذكره وإقامة الصلاة فيه، وهي أهم دعائم الإسلام بعد الشهادتين قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}[النور: 36-38].

ويستمد المسجد مكانته – أيضاً – من كونه مضافاً إلى الله سبحانه المعبود باعتباره بيته الذي وضعه لعباده؛ لإخلاص العبودية له فيه بما اختص نفسه من أنواع العبادات القولية والفعلية والعقدية قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجن: 18].

ومن مكانة المسجد العظيمة -بما حواه من معاني الصلة بين العبد وربه بما فيه من أنواع العبادات المحضة له وغيرها من العبادات المأمور بها- تأتي مكانة المسجد الاجتماعية ومقامه في مجتمع المسلمين باعتباره مركز التجمع ونقطة الانطلاق لكثير من أعمال الحياة الاجتماعية.

فهو مصدر توجيه المجتمع إيمانياً ومادياً، وهو مؤسسة للعلم تعلماً وتعليماً، وهو ندوته الأدبية تسلية وترويحاً، وشحذاً للهمم، ورفعاً للمعنويات.

ولذلك كان المسجد يحتل مكانة عظيمة عند المسلمين وفي مجتمع الإسلام. كيف لا وهو يمثل حقيقة إحدى ركائزه التي لا يقوم بدونها من أول الأمر الذي أقيم فيه مجتمع الدين الحنيف ملة أبينا إبراهيم عليه السلام.

إننا من خلال نظرة متأملة في تكوين بنية مجتمع الإسلام الخاتم المتمثل برسالة محمد صلى الله عليه وسلم نرى أن مواد بناء المجتمع وأسسه قد توافرت: الرجال، الأرض، القيادة التي وضعت خطوطها نصوص بيعة العقبة الثانية في منى بمكة المكرمة، وتم لها التنفيذ والتكامل في المدينة المنورة بهجرة الرسول وأصحابه الكرام إليها. ونجد أن أسس بناء ذلك المجتمع من بداية رفع صرحه قد أقامه الرسول على ثلاثة أسس قوية متينة مترابطة مع بعضها بدونها لا يكون مجتمعاً ذا هوية إسلامية له كامل الحقوق. ولا يحيا أهله حياة إسلامية معتبرة حسب دلالة النصوص الشرعية في الإسلام وواقع المسلمين بدونها.

هذه الأسس هي: المسجد، والأخوة، والدستور المربوط بعروة النظام: عقيدة الإيمان وشريعة الإسلام. ودلائل ذلك وشواهد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما رواه أهل السير وغيرهم من أن الرسول حين هاجر إلى المدينة وقد تهيأت أرضها لهجرته وهجرة أصحابه وأهلها لاستقبالهم واستقباله، والانضمام تحت لواءه وقيادته، كان لا يمر بمكان فيه مسلمون إلا وأكمل ما ينقصه مجتمعهم المصغر من أسس البناء.

ففي قباء وفي بني عمرو بن عوف نزل الرسول وليس لهم مسجد فكان أول عمل عمله فيهم أن بنى لهم مسجداً، فكان مسجد قباء أول مسجد أسس بعد النبوة. وفي بني سالم بن عوف وهو في طريقه إلى المدينة وجد مسجداً ولكنه أضفى إليه الشرعية بأن صلى الجمعة بهم فيه وهو قائد المسلمين.

وفي المدينة المنورة باعتبارها العاصمة وفيها الكثافة البشرية المسلمة أرسى هذه الأسس مجتمعة قبل أي عمل آخر فأسس المسجد أولاً، ثم أجرى الأخوة بين المهاجرين والأنصار ثانياً، ثم كتب الوثيقة لذلك المجتمع بما فيه ممن لم يسلم من يهود ومشركين. والتي كانت تمثل دستور التعامل بين ذلك المجتمع مسلمه وكافره.

ولأهمية المسجد الاجتماعية ومكانته السامية من بين هذه الأسس فقد استمر الرسول صلى الله عليه وسلم يوضح هذه الأهمية في اهتمامه بالمسجد والترغيب في بنائه والتشجيع لمؤسسيه في البيوت والعشائر حسب الحاجة والرغبة بل كان يُدعى لتخطيطها أو الصلاة فيها لتأخذ الطابع الشرعي، وكان الرسول يستجيب لذلك ويفعله إلا ما كان من مسجد الضرار الذي بني لغير مصلحة الجماعة؛ بل لحرب الله ورسوله والمؤمنين4.

وقد شارك عليه الصلاة والسلام في بناء المسجد بنفسه، فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول:

اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة *** فاغفر للأنصار والمهاجرة

وكان يقول:

هذا الحمال لا حمال خيبر *** هذا أبر ربنا وأطهر

وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة حتى أن أحدهم ليقول:

لئن قعدنا والنبي يعمل *** لذاك منا العمل المضلل5

وكانت في ذلك المكان قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غرقد، فأمر بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد وكانت القبلة إلى بيت المقدس، وجعلت عضادتاه من حجارة، وأقيمت حيطانه من اللبن والطين.

وجعلت له ثلاثة أبواب، وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخرته مائة ذراع والجانبان مثل ذلك أو دونه، وكان أساسه قريباً من ثلاثة أذرع6.

ومن خلال ما سبق نرى أهمية المسجد ومكانته وكيف أنه الأساس الأول لبناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية التي أسسها المصطفى صلى الله عليه وسلم فكانت أعظم دولة عرفها التاريخ، وقامت عليها أرقى الحضارات التي عرفتها البشرية.

إن المجتمع الإسلامي يعد متماسكاً إذا فُعِّل دور المسجد، وأدى رسالته التي من أجلها بني، لا أن يبقى لمجرد أداء الصلوات فقط، بل ليؤدي رسالته السامية في كافة مجالات الحياة.

والحمد لله رب العالمين،،،


1 السيرة النبوية دروس وعبر (74).

2 فقه السيرة للبوطي (152-153).

3 فقه السيرة للغزالي (178).

4 المسجد ونشاطه الاجتماعي على مدار التاريخ . لعبد الله الوشلي (17-20).

5 الرحيق المختوم (205).

6 المصدر السابق.