الفرقة والاختلاف

الفرقة والاختلاف

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله.. أما بعد:

عباد الله: إن من أعظم ما أمرنا الله تعالى أن نتمسك به وندعو إليه، ونجعله أهم الأسس التي نربي عليها أنفسنا وأبناءنا، وأهلينا: الحفاظ على الوحدة والتوحد وجمع الكلمة والائتلاف على الحق، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].

وقال عليه الصلاة والسلام: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله))1، وقال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً))2، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى لأصحابه عن المجتمع المثالي للمؤمنين وعن كمال الشعور الإيماني الأخوي، وكمال الإحساس بالإخوة الإسلامية فقال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))3، فما أعظم هذا المثل العظيم!.

ولأهمية الأخوة -أيها المؤمنون الكرام-، فإن نبينا عليه الصلاة والسلام جعل من أهم ما يقوم به من مهماته في المدينة النبوية بعد هجرته إليها: الإخاء، فقد آخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وهذا يدل على عظم شأن الاجتماع، وخطر التفرق والاختلاف بين المسلمين.

والذي ينظر إلى أحوال الأمة الإسلامية اليوم يجد الفرقة واضحة جلية، سواء كان على المستوى العالم الإسلامي، أو المستوى العربي، بل على مستوى البلد الواحد نجد فيه خلافاً كثيراً بين المسلمين في وقت هم فيه أحوج الناس إلى الألفة والاجتماع، وذلك نظراً لتكالب أعداء الله تعالى في هذه الأيام على الإسلام والمسلمين، واتهام الإسلام بأنه دين الإرهاب، وأن المسلمين إرهابيون، بل وصل الحد إلى سب النبي عليه الصلاة والسلام، وتشويه خَلقه وخُلقه، وإعلان المسابقات والإعلانات في تشويه صورته وسيرته، ومع ذلك لم يستيقظ المسلمون من رقدتهم، ولم ينتبهوا من غفلتهم إلا من رحم الله.

قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 105]، فإن بني إسرائيل لما جاءتهم رسلهم بالبينات والعلم تفرقوا واختلفوا، فنهانا الله تعالى عن سلوك سبيلهم.

قال تعالى عنهم: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[المؤمنون:  53].

فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله، وتجنبوا الاختلاف والشقاق، فإن الاختلاف يضعف الأمم، ويشتت الشعوب، ويحرم أصحابه من كثير من الخير، {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال: 46].

ولذا فإن أول وصية يوصي بها تعالى عباده بعد يوم بدر هو الأمر بالوحدة وإصلاح ذات البين، فقال: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[الأنفال: 1].

وروى البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: ((إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس))4.

واعلموا -عباد الله- أن الشيطان جعل أعظم حظه من هذه الأمة هو المشي بينهم بالتحريش ليفرقهم فقد جاء عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم))5.

فالشيطان حريصٌ أشد الحرص على الإفساد بين المسلم وأخيه، والأب وابنه، وغير ذلك.

ومن أهم آثار الخلاف والاختلاف -كما قدمنا-: الضعف والوهن، قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال: 46].

وكذلك النزاع والشقاق، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))6. وكما أن الله ورسوله قد بينا للناس آثار الاختلاف، وثماره فقد بينا أسبابه، فمن ذلك:

ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم))7.

فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن أعظم أسباب الخلاف هو المطمع والحرص على الدنيا، فإن التنافس فيها هو الذي فرق بين الأب والابن، والزوج والزوجة، والأخ وأخيه، بل أوصلهم ذلك إلى القتل، وسفك الدماء، وغيرها من المصائب العظيمة.

ومن أسباب الفرقة والاختلاف -عباد الله-: ضعف الإيمان وهو الذي يجعل صاحبه يخالف الآخرين، إما ليكون صاحب القول المشهور، أو ليشار إليه بالبنان، أو غير ذلك من الأعراض.

ومن أسباب الاختلاف: الهجر وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ لأنه سبب للتباغض، والتنافر، والتدابر، والحقد، وسوء الظن، وغيرها من الأمراض، فقال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان يعرض هذا أو يعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))8.

فكما بين الهجر بقوله: ((يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا)) فقد بين علاج ذلك وهو الأجر العظيم لمن يبدأ بالسلام.

أيها المؤمنون -عباد الله-: إن الاتحاد طريق النصر والقوة، كما قيل:

تأبى العصيُّ إذا اجتمعن تكسراً *** وإذا افترقن تكسرت آحاداً

وقد اتخذ الغرب خطة التفرق لتشتيت شمل المسلمين، واتخذوا سياسة "فرق تسد" فقسموا الأمة العظيمة الواحدة إلى دويلات صغيرة، ثم نشروا فيهم التعصب للدم، والنوع، واللغة، والبلد، والنسب، والمذهب، بينما ديننا الحنيف يجمع الناس على راية واحدة هي راية الإسلام، فالفارسي، والعربي، والغربي، والحبشي كلهم من آدم وحواء، لا فرق ولا فضل لأحد على الآخر إلا بالإيمان، والعمل الصالح.

وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات: 13].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لانبي بعده، أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: إن نبينا عليه الصلاة والسلام بذل أقصى جهده في الحفاظ على أصحابه من التفرق والاختلاف، وسلك معهم جميع السبل المؤدية إلى توحيدهم وعدم تفرقهم وضيق سبيل التفرق وبين أهمية الأخوة؛ ولعلنا نقف مع بعض تلك الفوائد والتي منها:

1-             أن فيها حماية للمجتمع من الانحراف، ومن أمراض الضعف الحضاري، بحيث يستمر هذا المجتمع في قوته وعطائه واستمراره.

2-      تتيح الأخوة فرصة طيبة من أجل تحقيق التكافل الاجتماعي، وتحقيق العدل في المجتمع الإسلامي؛ لأنها تبني المجتمع على أساس من العلاقات الاجتماعية السليمة.

3-      تجعل المجتمع يعيش في توازن، فلا يشعر الفرد المسلم بألم الفوارق بينه وبين أخيه المسلم، فهم جميعاً يسعون لخدمة بعضهم دون أن يطغي بعضهم على بعض.

وفي هذه اللحظات نقف مع بعض الصور من حياته صلى الله عليه وسلم:

قال ابن مسعود رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم))9.

وعن أبي ثعلبة الخشني قال: كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان))، فلم ينزل بعد ذلك منزلاً إلا انظم بعضه إلى بعض حتى يقال لو بسط عليهم ثوب لعمهم10.

أيها المؤمنون عباد الله: ومن صور الخلاف المذموم ما توصلت إليه اليوم أمتنا العربية والإسلامية من الاختلاف والتفرق في الأوطان، والمبادئ، والأخلاق، وغيرها.

بل من المؤلم جداً أن نرى تلك الجرثومة تقتحم أسوار أهل العلم حتى يصبح الخلاف والتفرق بينهم واضحاً، فكل له آراء، يتعصب لها، وترى كل واحد يشنع ويبدع من يخالفه على رغم أنها -قد تكون- مسائل اجتهادية يسع فيها الخلاف.

أيها الناس: إن للخلاف أنواعاً عديدة فمنه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، فكل ما سبق الكلام عنه في الخلاف المذموم الذي يقوم على حب النفس، وحب الشهوة، وحب المال، وغيرها من الأمور الدنيوية.

أما ما يكون على أساس الدين، وما وسع فيه الاجتهاد كالاختلاف بين الصحابة يوم أن قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة))11 فأدركتهم الصلاة وهم في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا: إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم السرعة والمبادرة لأمره إليهم، وصلى بعضهم في بني قريظة وقالوا: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن نصلي في بني قريظة، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الخبر لم يعنف أحداً منهم.

ولما أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يجمع القرآن عندما رأى تزايد موت القراء عارضه عمر رضي الله عنه وبعض الصحابة، ثم شرح الله صدرهم لجمعه.

ومن صور الخلاف التي لا تُحرم ما كان بين أئمة الدين المرضيين كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، فقد كانت لهم آراء فقهية لا تخالف أصول الدين، ومع ذلك كانوا إخوة وأخذ بعضهم عن بعض، ولكن الأمر الذي لا يجوز شرعاً هو التعصب للآراء.

ما ينبغي مراعاته عند الخلاف:

1-   حسن الظن بالآخرين المخالفين: فمن القبح بمكان أن يفهم المسلم أن مخالفه يريد الشر والخلاف بل عليه أن يحسن الظن، وليكن حاله كحال الشافعي عندما قال: (قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب).

2-   أن المسائل الخلافية والاجتهادية والتي ليس لها تعلق بأصول الدين أن اختلف فيها فلا يجوز أن يؤدي الخلاف فيها إلى التنابز وإلقاء التهم والتفرق.

3-      احترام آراء الآخرين التي لا تخالف أصول الدين، وتقدير مشاعرهم وعواطفهم.

أسأل الله أن يجمع شملنا، ويوحد صفنا، ويؤلف بين قلوبنا، وأن ينصرنا على أعدائنا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين.

عباد الله: صلوا وسلموا على نبينا محمد، اللهم صلِّ وسلم على محمد، وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

والحمد لله رب العالمين،،،.


1 رواه البخاري (6/2550) برقم (6551) ومسلم برقم (2564).

2 رواه البخاري (1/182) برقم (467)، ومسلم برقم (2585).

3 رواه مسلم (4/1999) برقم (2586).

4 رواه البخاري (1/27) برقم (479).

5 رواه مسلم (4/2166) برقم (2812).

6 رواه البخاري (1/ 56) رقم (121)، ومسلم (1/81) برقم (65).

7 رواه البخاري (4/1473) رقم (3791)، ومسلم (4/2273) رقم (2961)..

8 رواه البخاري برقم (5727) ومسلم (2560).

9 رواه مسلم برقم (432).

10 رواه أبو داود (2/498) برقم (2628)، قال الشيخ الألباني: (صحيح) انظر صحيح أبي داوود رقم (2288).

11 البخاري (4/1510) رقم (3893).