أي الناس أفضل؟

أي الناس أفضل؟

 

الحمد لله الذي من علينا بالإسلام، وهدانا بالإيمان الجاري على أحسن نظام، وأنعم علينا بشفاعة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، وجعل سير الأولين عبرة لأولي الأفهام، وتقلبات الأحوال قاضية على كل أمر حادث بالإنصرام، كيلا يغتر ذو جمال حسن ولا ييأس من لعبت بأحواله أكف السقام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

نص الحديث:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله)) قالوا: ثم من؟ قال: ((مؤمن في شِعْبٍ من الشِعاب يتقي الله ويدع الناس من شره))1.

صحابي الحديث:

أبو سعيد الخدري، اسمه: سعد بن مالك بن سنان. كان أبو سعيد من الحفاظ المكثرين، العلماء الفضلاء العقلاء، وأخباره تشهد له بذلك.

روي عنه أنه قال: عرضت يوم أحد على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فجعل أبي يأخذ بيدي ويقول: يا رسول الله إنه عبل العظام، والنبي صلى الله عليه وسلم يصعد في بصره ويصوبه …، ثم قال: وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق قال الواقدي: وهو ابن خمس عشرة سنة ومات سنة أربع وسبعين2.

مفردات الحديث:

قوله: (شِعب) انفراج بين جبلين.

شرح الحديث:

جاء في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ليفعلوه، فأنزل الله تعالى سورة الصف، ومن جملتها هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف: 10]. ثم فسر هذه التجارة العظيمة التي لا تبور التي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الصف: 11]. أي من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها3.

وقد روى ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير أن هذه الآية لما نزلت قال المسلمون: لو علمنا هذه التجارة لأعطينا فيها الأموال والأهلين فنزلت: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ…} الآية4.

قوله: (أي الناس أفضل) في رواية مالك من طريق عطاء بن يسار مرسلاً ووصله الترمذي والنسائي وابن حبان عن ابن عباس (خير الناس منزلاً)5، وفي رواية للحاكم: (أي الناس أكمل إيماناً)6 وكأن المراد بالمؤمن من قام بما تعين عليه القيام به، ثم حصل هذه الفضيلة، وليس المراد من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية، وحينئذ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى، ولما فيه من النفع المتعدي، وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة؛ لأن الذي يخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام، فقد لا يفي هذا بهذا وهو مقيد بوقوع الفتن7.

إن أحب شيء إلى الله عز وجل بعد الإيمان الصلاة على أول وقتها، ثم الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس والعلم والرأي والكلام، والجهاد آلته السيف والبندقية والقلم واللسان، وبه يعز الله دينه وينصر أولياءه، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن الكافرين والمنافقين لا يعلمون، ويقطع به دابر الكافرين الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين.

وجزاء المجاهدين في الدنيا: الكرامة والغنيمة وحماية الدين والنفس والأهل والمال والعرض والوطن، وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا، وللمجاهدين في الآخرة رضاء الله والجنة التي جعلها ثمناً لأنفسهم وأموالهم كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: 111]. وحيث كانت الجنة تحت ظلال السيوف فيما مضى فهي اليوم تحت شظايا القنابل وعجلات الدبابات وأفواه المدافع وأنقاض البيوت والعمران بأيدي العتاة الظالمين، أعداء الإسلام والمسلمين.

وما كان آباؤنا الذين ثُلَّت بهم العروش وحلت بهم التيجان إلا رجالاً استعذبوا الموت في سبيل الله، واستعجلوا مرارة القتل في نصرة الدين الذي يجعل الناس كلهم عبيداً لخالقهم جميعاً من تراب، ورازقهم من طيبات ما تخرج الأرض.8

ولقد انقسم الناس -قديمًا وحديثًا- في موضوع الجهاد في سبيل الله إلى ثلاث طوائف:

1- فطائفة يغلب عليها الحماس، والاندفاع، والإقدام، ومن حرصها على ذلك أفرطت في موضوع الجهاد، ولذلك وقعت في مزالق كبيرة، وكان لهذا الأمر من السّلبيات ما لا يخفى.

2- وطائفة في مقابل هذه الطّائفة، فرّطت في الجهاد في سبيل الله، وتسعى دائمًا لإضاعة وإماتة هذا الرّكن العظيم، وإذا دعا داعي الجهاد، انتفضت خوفًا وفرقًا وذعُرًا، وذهبت تلتمس الأعذار للتخلّف والقعود.

3- أمّا الطائفة الثالثة فهي التي توسّطت بين الطّائفتين، فأحّبت الجهاد، ورغبت فيه، وسعت إليه، ولكن ذلك لم يدفعهم لأن يستعجلوا الشيء قبل أوانه، ولذلك التزموا بالضّوابط الشّرعية في الإعداد للجهاد، وإعلانه، والاستمرار فيه.9

قوله: (مؤمن في شعب) في رواية مسلم عن الزهري (رجل معتزل)10.

قوله: (شِعب) الشعب ما انفرج بين جبلين، وليس المراد نفس الشعب خصوصاً، بل المراد الانفراد والاعتزال، وذكر الشعب مثالا لأنه خال عن الناس غالبا11.

قوله: (يتقي الله) في رواية مسلم عن الزهري: (يعبد الله)12 وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما (معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس)13، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً مر بشعب فيه عين عذبة فأعجبه، فقال: لو اعتزلت، ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً)14.

وفي هذا الحديث دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط، وفي ذلك خلاف مشهور، فمذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل، وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر عليهم أو نحو ذلك من الخصوص، وقد كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين، فيُحَصِلُون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضى وحلق الذكر وغير ذلك15.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها، وذكر أن العبد لا بد له من الانفراد بنفسه: في دعائه، وذكره، وصلاة النافلة، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، ومما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره.16

قال القاضي عياض: هذا عام مخصوص، وتقديره هذا من أفضل الناس، وإلا فالعلماء أفضل وكذا الصديقون كما جاءت به الأحاديث17.

وفي الانفراد فضلٌ لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك، وأما اعتزال الناس أصلاً فقال الجمهور: محل ذلك عند وقوع الفتن، ويؤيد ذلك ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع بهيعة استوى على متنه، ثم طلب الموت مظانه، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خيره)18.

قال ابن عبد البر: إنما أوردت هذه الأحاديث بذكر الشعب والجبل؛ لأن ذلك في الأغلب يكون خالياً من الناس، فكل موضع يبعد على الناس فهو داخل في هذا المعنى.19

مما يستفاد من الحديث:

1.    عظم منزلة الجهاد في سبيل الله.

2.    أن الجهاد من أفضل الأعمال.

3.  حسن تصرف النبي صلى الله عليه وسلم حيث أرشد السائل إلى ما يناسبه بأن الجهاد أفضل، وإلا فقد جاء في بعض الأحاديث أن الصلاة على وقتها أفضل, وبعضهم أرشدهم إلى طاعة والديه، وغير ذلك.

4.  إذا كثرت المنكرات ولم يستطع الإنسان تغييرها أو مجاهدة نفسه في الصبر عليها، وكثرت الفتن فعليه أن يعتزل الناس وتلك الفتن حتى يسلم.


1 رواه البخاري (2634) ومسلم (1888).

2 الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/34).

3 تفسير ابن كثير (4/463).

4 فتح الباري لابن حجر (6/6).

5 رواه مالك في الموطأ (959) والنسائي (2569) وابن حبان (604) وصححه الألباني.

6 رواه الحاكم قي المستدرك (2390) قال الذهبي قي التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.

7 فتح الباري لابن حجر (6/6).

8 إصلاح المجتمع للبيحاني ص(248-249).

9 الوسطية في ضوء القرآن الكريم  (1/253).

10 رواه مسلم (1888).

11 صحيح مسلم (3/1503).

12 المرجع السابق.

13 رواه والنسائي (2569) وصححه الألباني.

14 رواه الترمذي (1650)وحسنه الألباني: انظر حديث رقم : 7379 في صحيح الجامع.

15 شرح سنن ابن ماجه (1/286).

16 انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية (10/425- 426).

17 شرح السيوطي على مسلم (4/485).

18 أخرجه ابن حبان (4600) قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.

19 فتح الباري لابن حجر (6/6-7).