محبطات الأعمال

محبطات الأعمال

 

الحمد لله الواحد الأحد، الذي تفرد بالعزة والبقاء والسؤدد، وهو الله الذي لم يكن له صاحبة ولا ولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على خير من ركع وسجد، وقام لله يتهجد، محمد بن عبد الله الذي كمل به عقد النبوة، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد:

فإن الله عز وجل خلقنا لعبادته وحده لا شريك له، وأمرنا بإخلاص العبادة له، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}[الزمر: 2]. وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أوحي إليه أن من أشرك مع الله غيره فقد حبط عمله، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر: 65]. وأمر جميع العباد بإخلاص العبادة له فقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة: 5]. وخص دعاءه بمزيد من الإخلاص، وأخبر أنه يجب أن يدعى ويسأل من اتصف بصفة الحياة الأبدية، وهو الذي بيده الموت والحياة، فقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[غافر: 65]. ولذلك فقد كان أنبياء الله ورسله – عليهم أزكى الصلاة وأتم التسليم – على درجة عالية من العمل، ولكنهم مع ذلك كانوا على درجة أعلى من إخلاص العمل، وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا على درجة عالية من الإخلاص والمتابعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كل واحد منهم يعمل الطاعات والحسنات ويخاف أن ترد عليه، فهذه عمر الفاروق رضي الله عنه يسأل صاحب سرِّ النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فيقول له: ناشدتك الله: هل عدَّني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحداً بعدك. ويقول ابن مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل1. فهؤلاء الصحابة الكرام يعملون ويخلصون، وأما نحن اليوم فإننا إذا عملنا شاب العملَ شيءٌ من الرياء – ولا حول ولا قوة إلا بالله – .

ولذلك فإن يجب على الإنسان أن يحذر من محبطات العمل صغيرها وكبيرها؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد: 33]، وإليك ذكر بعض هذه المبطلات:

1-  الردة عن دين الله، قال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 217]. وقال الله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة: 5]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}[النساء: 137]. وتكون الردة بالقول؛ كسبِّ الله تعالى أو رسله أو ملائكته، وتكون بالفعل؛ كالسجود للصنم والحجر والشجر، وعمل السحر، والحكم بغير ما أنزل الله. وتكون بالاعتقاد؛ كاعتقاد أن الزنا حلال، أو أن الخبز حرام أو أن الصلاة غير واجبة. وتكون بالشك؛ كمن شك في تحريم الشرك، أو شك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو رسالة غيره من الأنبياء.

2-   الشرك بالله في عبادته، أو ربوبيته، أو إلاهيته، أو أسمائه وصفاته، قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}[التوبة: 17]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[الأنعام: 88]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر: 65]. فالشرك محبط للعمل بالكلية فلا تنفع معه حسنة، كما قال الله سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}[إبراهيم: 18].

3-  عدم اعتقاد كفر الكفار أو الشك في كفرهم، أو تصحيح مذهبهم، أو اعتقاد جواز التدين بغير دين الإسلام، قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 256]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل))2.

4-  الاستهزاء بشيء من دين الله تعالى، أو ثوابه، أو عقابه، أو ما يتعلق بذلك، قال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}[التوبة: 65-66].

5-  النفاق الاعتقادي، قال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}[المنافقون: 3]. وذلك كمن يكذب بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو ببغضه، أو يبغض ما جاء به، أو الفرح بهزيمة المسلمين، أو الحزن لانتصارهم.

6-  ترك ركن من أركان الإسلام، وأهمها الصلوات المفروضة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة))3. وعن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))4 . وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على كفر تارك الصلاة؛ فعن عبد الله بن شقيق رضي الله عنه قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة5. وقد خالف أقوام من بعدهم في هذا الحكم، فرأوا أن ترك الصلاة تكاسلاً لا يكون كفراً، وإنما هو كبيرة من الكبائر، ولهم أدلة على ذلك. والخلاف في هذه المسألة مشهور.

7-   إتيان الكهان والعرافين وتصديقهم، فعن بعض أمهات المؤمنين قالت: قال رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة))6 . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى كاهنا، أو عرافا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد))7.

8-  التألي على الله عز وجل، وهو الإقسام على الله بأن لا يغفر لفلان أبداً- والعياذ بالله- فعن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَدَّث: ((أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله قال: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟ فقد غفرت لفلان وأحبطت عملك!!))8.

9-  انتهاك حرمات الله –تعالى- في الخلوات، فعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله -عز وجل- هباء منثوراً))، قال ثوبان: يا رسول الله! صِفهم لنا؟ جَلِّهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم؟. قال: ((أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها))9.

10-    الشرك الأصغر، كيسير الرياء، قال الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[البقرة: 264]. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ قال: ((لا شيء له)) فأعاده عليه ثلاثاً كل ذلك يقول: ((لاشيء له)). ثم قال: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه))10. وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر: الرياء، يقول الله إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء))11 . وعن أبي سعد بن أبي فضالة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان قد أشرك في عمل عمله فيطلب ثوابه عنده فإن الله أغنى الأغنياء عن الشرك))12.

11-    ترك صلاة العصر، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذي تفوته صلاة العصر كأنما وُتِر أهله وماله))13. وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله))14.

12-    المن والأذى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[البقرة: 264]. قال ابن عمر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بما أعطى))15، وقد أنشد بعضهم:

أفسدت بالمنِّ ما أسديت من حسن *** ليس الكريم إذا أسدى بمنان

وصدق الله القائل في محكم التنزيل: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}[البقرة: 263].

واللهَ نسأل أن يحفظ أعمالنا من أن تشوبها شائبة الرياء. اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد من عبادك فيها شيئاً. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. والحمد لله رب العالمين.


1 رواه البخاري معلقاً.

2 أخرجه مسلم .

3 رواه مسلم.

4  أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (884).

5 رواه الترمذي.

6 رواه مسلم وأحمد.

7 رواه أحمد (9536) وقال محققو المسند: حديث حسن.

8 رواه مسلم.

9 رواه ابن ماجه وهو في السلسلة الصحيحة رقم (505).

10 رواه  النسائي رواه أبو داود، وهو في السلسلة الصحيحة رقم (52).

11 رواه أحمد وهو في السلسلة الصحيحة رقم (951).

12 رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد، وهو في المشكاة برقم (5318).

13 رواه البخاري.

14 رواه البخاري.

15 صحيح ابن حبان (16/ 334) رقم (7340).