قارب النجاة

قارب النجاة

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أعاذنا الله وإياكم من النار وسبلها.

أيها الناس: إن الله سبحانه خلق هذا الإنسان من العدم ولم يكن شيئا مذكورا، فصوره وأتقن خلقه وجعله في أحسن تقويم {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون: 14]، وتكفل برزقه، وكتب أجله، وخط في اللوح المحفوظ عمله قبل أن يخلقه {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}[الأنعام: 59]، فرَبٌ هذه صفاته، وهذه قدرته وهذا علمه، لحقيق بأن تتوجه إليه القلوب وتناجيه الأفئدة، وتتزود بتقواه النفوس، فيا من زارته الهموم، ونغص عيشه البلاء، وأقلق فؤاده الفقر والعناء، كيف لم تصعد قارب النجاة لتسير إلى ربك بسلام، فتتوكل على هذا الرب العظيم الذي خلقك ولم تكن شيئا مذكورا ؟ وإلا فمن رزقك في بطن أمك جنينا، وأمدك بثديي أمك بعد خروجك لهذه الدنيا طفلا صغيرا ؟ أفيعجز عن رزقك الآن وما أنت إلا هباءة صغيرة في ملكوته، وجرم صغير في كونه؟! كلا والله.

إذا فكيف نسيته في أزماتك؟ ورجوت غيره في ملماتك؟ واعتمدت على سواه لجلب منافعك ودفع مضارك؟

فهيا يا من آمنت بربك، استمع لندائه وهو يدعوك لزورق السعادة وقارب النجاة فيقول: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران: 122]، إن التوكل -أيها المسلمون- عبادة من العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لرب العالمين، المنعم المعطي المتفضل وحده سبحانه، وبهذا أمر الله عباده وعلى هذا ربا الله أنبياءه، ومن أجل هذا امتحن الله أولياءه، فكانوا يرجعون إليه معلنين فقرهم وعجزهم وضعفهم بين يديه ينادون ويهتفون: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[الممتحنة: 4]، {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء: 87]، قال سبحانه آمراً نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام أن يصرف هذه العبادة له وحده: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}[هود: 123]، وقال جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الحج: 78]، وقال عن نبيه شعيب عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود: 88].

"والتوكل هو أن تكل أمورك بالكلية إلى الله سبحانه وتعالى وترضى بحسن اختياره لك وليكفيك تدبيره فيك"1.

وانظروا أيها الناس كيف غرس النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه، بل جعله درسا باقيا في عقبه إلى يوم الدين فقال صلى الله عليه وسلم: (( لو أنكم كنتم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً))2، فوصف صلى الله عليه وسلم المتوكل على الله بوصفين: السعي في طلب الرزق والاعتماد القوي على مسبب الأسباب سبحانه، فمن فقد الوصفين أو أحدهما خسر وخاب، ومن سعى في الأسباب المباحة واعتمد على ربه وشكر المولى إذا حصلت له المحبوبات وصبر لحكمه عند المصائب والبلاء، فقد فاز ونجح واستولى على جميع الكمالات، فالرزق من الله فعليه التوكل وبه العون ولا حول ولا قوة إلا به.

وقال صلى الله عليه وسلم لذلك الغلام الصغير حينئذ – عبد الله بن عباس- يغرس في قلبه هذا المفهوم، ويعلمه هذا الدرس المهم: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله))3.

فالاستعانة بالله والتوكل عليه من أعظم واجبات الإيمان، وأفضل الأعمال المقربة إلى الرحمن، فإن الأمور كلها لا تحصل ولا تتم إلا بالاستعانة بالله والتوكل عليه، ولا عاصم للعبد سوى الاعتماد على الله، فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء عنده بمقدار.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم- عليه السلام- حين ألقي في النار، وقالها محمد – صلى الله عليه وسلم – حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران: 173]"4.  

قال" محمد بن يحيى الذهلي: سألت الخريبي عن التوكل فقال: أرى التوكل حسن الظن بالله"5.

من علم أنه فقير إلى ربه في كل أحواله كيف لا يتوكل عليه؟! ومن علم أنه عاجز مضطر إلى مولاه كيف لا يستعين به وينيب إليه؟! ومن تيقن أن الأمور كلها بيد الله كيف لا يطلبها ممن هي في يديه؟! ومن علم بسعة غناه وجوده كيف لا يلجأ في أموره كلها إليه؟! ومن استيقن أنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها كيف لا يطمئن قلبه إلى تدبيره ؟! ومن علم أنه حكيم في كل ما قضاه كيف لا يرضى بتقديره ؟! فيا أيها العبد المقبل على الخير إنك لن تناله إلا ببذل المجهود، والاستعانة والاعتماد على المعبود، ويا أيها المجاهد نفسه عن المعاصي والذنوب إنه لا يتيسر لك تركها إلا بقوة الاعتصام بعلام الغيوب، فإنه من توكل عليه كفاه، ومن استعان به واعتصم أصلح له دينه ودنياه، ومن أعجب بنفسه وانقطع قلبه عن ربه خاب وخسر أولاه وأخراه، فكم من ضعيف عاجز عن مصالحه قوي توكله على ربه فأعانه عليها، وكم من قوي اعتمد على قوته فخانته أحوج ما يكون إليها، ما ثم إلا عون الله وتوفيقه، فهو عدة المؤمنين، ولا فلاح ولا سعادة إلا بعبادة الله والاستعانة به، فهو المعبود حقا، وهو نعم المعين.

قال ابن رجب رحمه الله: "وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز و جل في استجلاب المنافع ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها ووكلت الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه، قال سعيد بن جبير: التوكل جماع الإيمان.

وقال وهب بن منبه: الغاية القصوى التوكل، وقال الحسن: إنَّ توكل العبد على ربه أن يعلم أن الله هو ثقته…  واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك؛ فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له والتوكل بالقلب عليه إيمان به قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا}[النساء: 71]، وقال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ}[الأنفال: 60]، وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}[الجمعة: 10]، وقال سهل التستري: من طعن في الحركة يعني في السعي والكسب فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان؛ فالتوكل حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والكسب سنته فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته"6.

وقيل: " عدم الأخذ بالأسباب طعن في التشريع، والاعتقاد في الأسباب طعن في التوحيد"7.

أيها المسلمون: فالواجب على العبد أن يبذل الأسباب دون الاتكال عليها في تحقيق مراده، بل يتوكل على الله وحده مالك الأمر كله، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتوكلين، يحث على بذل السبب والسعي في طلب الرزق، وهكذا كان أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.

الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أعظم المتوكلين وإمامهم مع الصديق رضي الله عنه وأرضاه، يدخلان الغار فارين من أعداء الإسلام، متوكلين على الملك العلام، يذهب الرسول صلى الله عليه وسلم ليدخل الغار  فقال أبو بكر: "والله لا تدخله حتى أدخل قبلك؛ فإن كان فيه شيء أصابني دونك! فدخله فكسحه8 ووجد في جوانبه ثقباً فشق إزاره وسد بها تلك الثقب وبقي منها اثنان فألقمهما رجله، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع رأسه في حجره فنام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، فلم يتحرك مخافة أن يستنبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا أبا بكر؟! قال: لدغت فداك أبي وأمي، فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده"9، وجاء المشركون باحثين عنهما ينخلون الجبال ويمشطون الوهاد ويمسحون الصحراء، وأحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه إذ هما في الغار، يقول أبو بكر: فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم على رؤوسنا!! فأخذ أبا بكر الروع وهمس يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما))10

قال النبي ولم أجزع يوقرني *** ونحن في سُدَفٍ من ظلمة الغار11

لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا *** وقد توكل لي منه بإظهار

والله لو خرجت قريش بمن معها – ولو كان كل من في الأرض- النساء والرجال والأطفال، الصغار والكبار وخرج معهم الأموات يجرون أكفانهم، فطافوا الأرض كلها يقلبون حجارها، وينخلون رمالها ما قدروا على اثنين الله ثالثهما {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق: 3] فانظر كيف توكل على ربه، وعمل بالسبب فاختبأ في الغار، فجعل الله له ولصاحبه فرجا ومخرجا.

قال الإمام النووي رحمه الله: "وفي ربط البراق الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب، وأن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله سبحانه وتعالى.

وقال السهيلي: وفي هذا من الفقه التنبيه على الأخذ بالحزم مع صحته التوكل وأن الإيمان بالقدر كما روى عن وهب بن منبه لا يمنع الحزم من توقي المهالك، قال وهب: وجدته في سبعين كتابا من كتب الله القديمة، وهذا نحو من قوله صلى الله عليه وسلم: ((اعقلها وتوكل))12.

فإيمانه صلى الله عليه وسلم بأنه قد سخر له كإيمانه بقدر الله تعالى وعلمه بأنه قد سبق في أم الكتاب ما سبق، ومع ذلك كان يتزود في أسفاره، ويعد السلاح في حروبه، حتى لقد ظاهر بين درعين في غزوة أحد وربطه للبراق من هذا الفن"13.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم وهو من أقوى الأسباب في ذلك فإن الله حسبه أي كافية ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه"14.

و"كتب عمر رضي اللّه عنه إلى ابنه عبد اللّه في غيبة غابها: أما بعد فإنه من اتقى اللّه وقاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن شكره زاده، ومن أقرضه جزاه، فاجعل التقوى جلاء بصرك وعماد ظهرك.."15

توكل على مولاك واخش عقابه *** وداوم على التقوى وحفظ الجوارح

وقدم من البر الذي تستطيعه *** ومن عمل يرضاه مولاك صالح

يقول ابن القيم رحمه الله: "التوكل على الله نوعان أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.

والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه، وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية، ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم..

ثم قال: فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق"16.

أيها الناس: إن التوكل على الله تعالى سبب من أسباب إزالة الخوف، وطمأنينة القلب، وسكون النفس في أحوال الفتن والمحن، وهو سبب للثبات على الدين والصدع بالحق؛ ذلك أن المتوكّل على الله تعالى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن التوكل على الله تعالى دليلٌ على صحة الإيمان، وقوة اليقين، وخلو القلب إلا من الله رب العالمين، كما "قال المروذي: قيل لأبي عبد الله – أحمد بن حنبل -: أي شيء صدق المتوكل على الله عز وجل؟ قال: أن يتوكل على الله ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع أن يجيئه بشيء، فإذا كان كذا كان الله يرزقه وكان متوكلا "17.

واعلم أيها المسلم أن التوكل كما يقول ابن القيم رحمه الله لا تتم حقيقته إلا بأمور لا بد من معرفتها والعمل بها "الأولى: معرفة العبد المتوكل ربه وصفاته: فلا بد للمتوكل حتى يرتقي إلى درجة التوكل العالية أن يعرف ربه حق المعرفة، وذلك بالتفكر في قدرته سبحانه وكفايته وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته، وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.

الثالثة: رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده لخالقه، فلا يرجو مع الله أحداً، ولا يطمع في غير الله سنداً.

الرابعة: اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه، بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب ولا سكون إليها، بل يخلع السكون إليها من قلبه ويلبسه السكون إلى مسببها وعلامة هذا: أنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره؛ لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه قد حصنه من خوفها ورجائها، فحاله حال من خرج عليه عدو عظيم لا طاقة له به فرأى حصنا مفتوحا فأدخله ربه إليه وأغلق عليه باب الحصن، فهو يشاهد عدوه خارج الحصن فاضطراب قلبه وخوفه من عدوه في هذه الحال لا معنى له.

الخامسة: حسن الظن بالله عز وجل فعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله.

السادسة: استسلام القلب له وانجذاب دواعيه كلها إليه..يعني الاستسلام لتدبير الرب لك، فلا تجد في نفسك حرجا مما قضاه وتسلم تسليما.

السابعة: التفويض وهو روح التوكل ولبه وحقيقته وهو إلقاء أموره كلها إلى الله وإنزالها به طلبا واختيارا لا كرها واضطرارا، بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره: كل أموره إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته وتمام كفايته وحسن ولايته له وتدبيره له فهو يرى أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه وقيامه بمصالحه وتوليه لها خير من قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها، فلا يجد له أصلح ولا أرفق من تفويضه أموره كلها إلى أبيه وراحته من حمل كلفها وثقل حملها مع عجزه عنها وجهله بوجوه المصالح فيها وعلمه بكمال علم من فوض إليه وقدرته وشفقته.

فإذا وضع قدمه في هذه الدرجة انتقل منها إلى درجة الرضا، وهي ثمرة التوكل..فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله، وكان شيخنا – أي ابن تيمية -رضي الله عنه يقول: المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله والرضا بعده، فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية أو معنى هذا.

قال ابن القيم: قلت وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم)) فهذا توكل وتفويض ثم قال: ((فإنك تعلم ولا أعلم وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب)) فهذا تبرؤ إلى الله من العلم والحول والقوة، وتوسل إليه سبحانه بصفاته التي هي أحب ما توسل إليه بها المتوسلون، ثم سأل ربه أن يقضي له ذلك الأمر إن كان فيه مصلحته عاجلا أو آجلا، وأن يصرفه عنه إن كان فيه مضرته عاجلا أو آجلا، فهذا هو حاجته التي سألها فلم يبق عليه إلا الرضا بما يقضيه له فقال: ((واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به)).

 فقد اشتمل هذا الدعاء على هذه المعارف الإلهية والحقائق الإيمانية التي من جملتها: التوكل والتفويض قبل وقوع المقدور والرضا بعده وهو ثمرة التوكل، والتفويض علامة صحته فإن لم يرض بما قضى له فتفويضه معلول فاسد.

 فباستكمال هذه الدرجات الثمان يستكمل العبد مقام التوكل وتثبت قدمه فيه وهذا معنى قول بشر الحافي رحمه الله: يقول أحدهم: توكلت على الله، يكذب على الله. لو توكل على الله لرضي بما يفعله الله به.

وقول يحيى بن معاذ رحمه الله وقد سئل: متى يكون الرجل متوكلا فقال: إذا رضي بالله وكيلا"18.

فيا عباد الله: أخلصوا التوكل على بارئكم، وأحسنوا الظن به، وأبشروا وأملوا فما عند الله خير وأبقى.

"قال بعض السلف: جعل الله تعالى لكل عمل جزاء من جنسه وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ولم يقل نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه فلو توكل العبد على الله تعالى حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجا من ذلك وكفاه ونصره"19.

{إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران: 160]، {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[يوسف: 21].

فو الله يا إخواننا لو أننا نتوكل على الله حق التوكل؛ لرزقنا كما يرزق الطير، تغدوا خماصا، وتروح بطانا..

{وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[المائدة: 23].

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك …


1 (عيوب النفس) لمحمد بن الحسين بن موسى السلمي أبو عبد الرحمن (1/51).

2 رواه أحمد برقم (205)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (310).

3 رواه أحمد برقم (2763)، وصححه شعيب الأرنؤوط.

4 رواه البخاري برقم (4563).

5 سير أعلام النبلاء (9/349).

6 جامع العلوم والحكم  (1/436-437).

7 تزكية النفوس  (1/ 60).

8 الكسح هنا معناه: الكَنْسُ. انظر: المحيط في اللغة (2/373).

9 الرياض النضرة في مناقب العشرة – للمحب الطبري (1/45).

10 انظر صحيح البخاري رقم (3922)، ومسلم رقم (6319)، وصحيح فقه السيرة للألباني رقم (163).

11 السُدْفَةُ: الطائفة من الليل. تاج العروس من جواهر القاموس – (23/424)، فيكون معنى الشطر: ونحن في طائفة من ظلمة الغار.

12 قال شعيب الأرنؤوط في صحيح ابن حبان رقم (731): حديث حسن.

13 سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي (3/105).

14 بدائع الفوائد (3/348- 349).

15 أمالي القالي (1/159).

16 الفوائد (ص 86).

17 الآداب الشرعية لابن مفلح (3/262). 

18 مدارج السالكين (2 / 117-123).

19 بدائع الفوائد (3/350).