ملك الجوارح

 

 

ملك الجوارح

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا وإمامنا، وحبيبنا وقدوتنا، وقرة أعيننا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته ومن سار على دربه إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد ثبت في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب))1.

حديثنا سيكون عن هذا الملك الذي هو القلب، القلب الذي خلقه الله تعالى وسلطه على باقي الجوارح، حيث إن صلاحه صلاح للجوارح كلها، والعكس صحيح، وهذا القلب كما أخبر الله تبارك وتعالى، وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم هو على ثلاثة أنواع:

أولاً: قلب صحيح فهو قلب التقي الصالح كما قال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:89].

“والقلب السليم معناه الذي سلم من الشرك والشك، ومحبة الشر، والإصرار على البدعة والذنوب، ويلزم من سلامته مما ذكر اتصافه بأضدادها من الإخلاص والعلم، واليقين ومحبة الخير، وتزيينه في قلبه، وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة الله،وهواه تابعاً لما جاء عن الله”2، فهو الذي إذا أحب أحب لله، وإذا أبغض أبغض لله، وإذا أعطى فلله، وإذا منع فلله، كله لله، مرتبط بالله، مع أمره ومع نهيه سبحانه وتعالى، وكل إنسان يتمنى قلبه كذلك، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، وما نيل المطالب بالتمني، فالقضية ليست تمنٍ بل لابد أن يسعى الإنسان حتى يصل إلى هذا المراد كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}[الشمس:7-10] فالإنسان لا يتمنى فقط أن يكون قلبه سليماً بل لابد أن يعمل حتى يصير قلبه سليماً، أما مجرد الأماني فهذه كما يقال دابة العاجز يستعيرها ويركبها، أما المشمّر الذي يريد فعلاً أن يصل فإنه لا يتمنى الأماني، ويجلس في مكانه، بل لابد أن يسعى ويسعى حتى يصل إلى هذا المراد.

ثانياً: قلب ميت وهو عكس القلب الصحيح – أعاذنا الله وإياكم – وهو قلب الكافر كما قال الله تبارك وتعالى عن الكفار: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[البقرة:74]، فالله يخبر عن تلك القلوب بأنها أشد قسوة من الحجارة، يقول تعالى: “فهي كالحجارة، أو أشد قسوة” أي بل أشد قسوة من الحجارة – والعياذ بالله -، ولذلك اتبع الله – تبارك وتعالى – هذا الكلام ببيان فضل الحجارة على قلوبهم فقال: “وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقّق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله” مع إنها حجارة لكنها تهبط خشية لله تبارك وتعالى، فيجعل الله فيها شيئاً من الإحساس لتخشى الله تبارك وتعالى به، كما قال الله تبارك وتعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر:21]، فهذا جبل ولكنه يجعل الله فيه من الإحساس بما يخشع به لله تبارك وتعالى، وقال الله تبارك وتعالى في قصة موسى صلوات الله وسلامه عليه: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف: 143]، مع إنها حجارة ولكن جعل الله فيها من الخشية، ما الله به عليم، فهذه الحجارة هي أحسن من قلب الكافر – والعياذ بالله -، وقد بلغت بقلبه القسوة أن صار أشد من الحجارة – والعياذ بالله -.

ثالثاً: قلب مريض، وهذه القلوب المريضة قد يكون مرضها شديداً فتكون أقرب إلى الأموات، وقد يكون مرضها قليلاً فتكون أقرب إلى أصحاب القلب السليم، وقد يكون وسطاً، والناس يتفاوتون، وقس من قلوب الناس ما تشاء، فترى هذا أقرب إلى هذا،وهذا أقرب إلى هذا، وهذا بين بين، وهكذا قلوب أكثر الناس، هذا القلب المريض يضره ما لا يضر القلب الصحيح من الشبهات والشهوات، كما أن المريض أحياناً يمنعه الطبيب من أشياء لا يمنع منها الصحيح، كمريض الربو مثلاً إذا صار في الجو غبار أو رطوبة فيقول له الطبيب: لا تخرج، مع أن الناس كلهم يخرجون، ولكن هو يختلف لأنه مريض، إذاً صاحب القلب المريض قد يتعرض للشهوات والشبهات، وتضره، وذلك للمرض الذي فيه، بينما نفس هذه الشبهات لا تضر صاحب القلب السليم.

وهذه الأمراض كما بين الله – تبارك وتعالى – تنقسم إلى قسمين:

أولاً: أمراض شبهات قال الله تبارك وتعالى عنها: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[البقرة:8-10]، فهذا هو مرض الشبهات، تلك الشبهات التي خالطت قلوبهم حتى صاروا لا يستطيعون أن يتبينوا الطريق الصحيح.

ثانياً: أمراض شهوات قال الله تبارك وتعالى عنها: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}[الأحزاب: 32] فهذا المرض هنا هو مرض الشهوة.

أخي الكريم: إن هذين المرضين يعتريان القلب، وكلاهما يضر، ولكنهما يتفاوتان فأحدهما أقوى من الآخر، حيث يمكن شفاء أحدهما أما الآخر فيصعب شفاءه لكن لا يستحيل، ولكن يختلفان، كالأمراض الحسية التي تصيب الناس فإن منها ما هو من الأمراض الخفيفة التي تذهب، ومنها ما قد تكون من الصعوبة بمكان بحيث يصعب شفاء الناس منها، وكذلك أمراض القلوب، ومرض الشبهة أعظم بكثير من مرض الشهوة.

ومن الأهمية بمكان أن ننظر إلى قلوبنا الآن، ونفحصها، وأن نعالجها،فعلاجها بأيدينا بعد مشيئة الله تعالى، حيث نستطيع أن نشخّص حالة قلوبنا: وهل هي مريضة أم لا؟ فإنه كما أن هناك علامات تدل على المرض الحسي البدني فإن هناك علامات تدل على المرض القلبي، وأنت إذا جئت إلى الطبيب سألك بعض الأسئلة، ومن خلال عدة علامات معينة يستطيع الطبيب أن يحكم عليك إن كنت مريضاً أم لا؟ وهل هذا المرض شديد أم لا.

والأمر كذلك هنا بالنسبة لمرض القلب فأنت تستطيع أن تشخّص قلبك، وأن تصل إلى نتيجة يعرف من خلالها هل هو مريض أم صحيح؟ فإن كان مريضاً فما هي درجة هذا المرض؟ هل المرض شديد أم ضعيف أم وسط؟ كيف؟ هذه العلامات والدلائل التي من خلالها يعرف الإنسان نفسه يُنظر في تعرضه للفتن: هل يحب المعاصي؟ وإذا جاءته المعصية هل يُقبل عليها أو أنه ينفر منها؟ قال النبي   في حديث حذيفة الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيّما قلب أُشربها نكتت فيه نُكتة سوداء، وأيّما قلب أنكرها نكتت فيه نُكتة بيضاء، حتى تصير القلوب إلى قلبين: قلب أسود مرباد كالكوز مجخياً، لايعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هوى، وقلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض))3.

نسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لهداه، وأن يصلح فساد قلوبنا، إنه على ما يشاء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 صحيح مسلم (1599).

2 تفسير السعدي (1/593).

3 أخرجه الإمام مسلم (144).