الموقف من الفتن

الموقف من الفتن

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:

فنحن في زمن تكاثرت فيه الفتن، وتكالبت على الأمة أحداث موجعة، وأمور تجعل اللبيب حيراناً، وعند حلول الفتن تزيغ الأبصار عن الحق، وتبصره أخرى، وفيها تتبدل الأحوال، وتختبر عقول الرجال، ويمتحن الإيمان أيما امتحان.

وفي زماننا فتن كثيرة عاصفة ناسفة، لا يسلم من شرها إلا من ثبته الله من عنده فرزقه بصيرة، وفرقانا يبصر بهما الحق، وينصف الخلق، فيجنبه إياه، وفي الحديث عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ رضي الله عنه قَالَ: أيْمُ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنِ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنُ، وَلَمَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فواها))1. ويقول الله جل وعلا: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}[البقرة: 191]. 

"أي: الفتنة التي أرادوا أن يفتنوكم، وهي: رجوعكم إلى الكفر أشدّ من القتل، وقيل: المراد بالفتنة: المحنة التي تنزل بالإنسان في نفسه، أو ماله، أو أهله، أو عرضه، وقيل: إن المراد بالفتنة: الشرك الذي عليه المشركون؛ لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم، فأخبرهم الله أن الشرك الذي هم عليه أشدّ مما يستعظمونه، وقيل: المراد فتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام أشدّ من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم، والظاهر أن المراد: الفتنة في الدين بأيّ سبب كان، وعلى أيّ صورة اتفقت، فإنها أشدّ من القتل"2.

الفِتْنَةُ: الامتحان والاختبار، تقول: فَتَنْتُ الذهبَ، إذا أدخلتَه النار لتنظر ما جودته، ودينارٌ مَفْتونٌ. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[البروج: 10]، ويسمَّى الصائغُ الفتَّان، وكذلك الشيطان3.

و"الفتنة: ما يتبين به حال الإنسان من الخير والشر4" قال ابن حجر: "وَالْمُرَاد بِالْفِتْنَةِ مَا يَنْشَأ عَنْ الِاخْتِلَاف فِي طَلَب الْمُلْك حَيْثُ لَا يُعْلَم الْمُحِقّ مِنْ الْمُبْطِل"5.

وقد جاء لفظ الفتنة في القرآن الكريم على عدة معان منها:

   بمعنى الشرك قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}[البقرة: 191]، والمعنى: أن الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل؛ ولهذا قال: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} قال أبو مالك: أي: ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل6.

   وتأتي بمعنى الابتلاء، والاختبار قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت: 1-2] "فإن معناه: أظنَّ الذين خرجوا يا محمد من أصحابك من أذى المشركين إياهم أن نتركهم بغير اختبار ولا ابتلاء امتحان، بأن قالوا: آمنا بك يا محمد فصدّقناك فيما جئتنا به من عند الله، كلا لنختبرهم، ليتبين الصادق منهم من الكاذب"7.

   الحرق بالنار قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[البروج: 10] أي: "حرقوهم بالنار، والعرب تقول: فتنت الشيء، أي: أحرقته، وفتنت الدرهم والدينار: إذا أدخلته النار؛ لتنظر جودته8.

       وبمعنى القتل قال تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}[النساء: 101]، "والمراد بالفتنة: القتال، والتعرّض بما يكره"9.

   والتسليط قال تعالى: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}[الممتحنة: 5]، قال مجاهد: معناه: لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، وقال قتادة: لا تُظْهِرهم علينا فيفتتنوا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه10.

"ومعنى الفتنة في الأصل الاختبار والامتحان، ثم استعملت في كل أمر يكشفه الامتحان عن سوء. وتطلق على الكفر، والغلو في التأويل البعيد، وعلى الفضيحة والبلية والعذاب والقتال والتحول من الحسن إلى القبيح والميل إلى الشيء والإعجاب به، وتكون في الخير والشر"11.

"والفتنة نوعان: فتنة الشبهات، وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد وقد ينفرد بإحداهما:

 ففتنة الشبهات: من ضعف البصيرة وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد وحصول الهوى فهنالك الفتنة العظمى، والمصيبة الكبرى، وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع على حسب مراتب بدعهم فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال، ولا ينجي من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول وتحكيمه في دق الدين، وجله، ظاهره وباطنه، عقائده، وأعماله، حقائقه، وشرائعه، فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام وما يثبته لله من الصفات والأفعال والأسماء وما ينفيه عنه.

وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب، وتارة من حق ثابت خفي على الرجل فلم يظفر به، وتارة من غرض فاسد، وهوى متبع فهي من عمى في البصيرة، وفساد في الإرادة.

أما النوع الثاني من الفتنة: ففتنة الشهوات وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله: {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ}[التوبة: 69]، أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر ثم قال: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ} فهذا الخوض بالباطل وهو الشبهات، فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان من الاستمتاع بالخلاق والخوض بالباطل؛ لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني: فسق الأعمال.

فالأول فساد من جهة الشبهات، والثاني من جهة الشهوات.

ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه، وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع والهوى على العقل.

فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصل فتنة الشهوة، ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة: 24]، فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، وجمع بينهما أيضا في قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر: 3]، فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات، وبالصبر الذي يكف عن الشهوات"12.

إن خطورة الفتن تكمن في أنها تؤثر في القلب، وهذا مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: ((تعرض الفتن على القلب كعرض الحصير عودًا عودًا فأي قلب أُشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود إلى قلبين: قلبٍ أسود مربادٍ كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض))13.

وهنا نأتي إلى نقطة مهمة هي ما هو موقف المسلم من الفتن جميعها؟

أولاً: على المسلم أن يعتزل الفتنة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بأن يلزم داره وبيته، وإن كان في مواطن تكون فيها الفتنة شديدة فعليها أن يبادر إلى الخروج من هذا المكان أو المدينة، وأن يعود موطنه الأصلي الذي تكون فيه الراية معلومة ظاهرة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ))14.

ثانياً: أن يستعيذ بالله من شرها أياً كانت الفتنة فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ))15.

ثالثاً: يلزم بيته، ولا يشارك في الفتنة: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَا أَبَا ذَرٍّ: قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ: فِيهِ كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ يَكُونُ الْبَيْتُ فِيهِ بِالْوَصِيفِ يَعْنِي الْقَبْرَ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، أَوْ قَالَ: مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ، أَوْ قَالَ تَصْبِرُ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ قَالَ: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا رَأَيْتَ أَحْجَارَ الزَّيْتِ قَدْ غَرِقَتْ بِالدَّمِ قُلْتُ مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ قَالَ عَلَيْكَ بِمَنْ أَنْتَ مِنْهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا آخُذُ سَيْفِي وَأَضَعُهُ عَلَى عَاتِقِي، قَالَ: شَارَكْتَ الْقَوْمَ إِذَنْ، قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِي قَالَ تَلْزَمُ بَيْتَكَ، قُلْتُ فَإِنْ دُخِلَ عَلَيَّ بَيْتِي، قَالَ: فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ فَأَلْقِ ثَوْبَكَ عَلَى وَجْهِكَ يَبُوءُ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِهِ))16.

رابعاً: صدق اللجوء إلى الله عند الفتن، فالله سبحانه هو الذي يثبت عباده، {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء}[إبراهيم: 27]، فالله عز وجل هو الحافظ، والعاصم من الفتن.

خامساً: طلب العلم الشرعي، والعمل بالعلم، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}[النساء: 66]. 

سادساً: صحبة الأخيار الأطهار من الناس، فإنهم يكونون عونًا له ويشدون من أزره عند الفتن.

سابعاً: سلوك سبيل السلف الصالح، والسير على نهجهم.

ثامناً: الاستعانة بالدعاء، وصدق الرجوع إلى الله عز وجل.

تاسعاً: ملازمة العلماء والاتصال بهم والاستماع لما يوجهون به الأمة.

أمثلة في الثبات على الحق عند الفتن:

·   ثبات امرأة فرعون، لما آمنت بالله توعدها فرعون بالتعذيب، فلما أمر جنوده أن يعذبوها، كانت تضحك، فقال فرعون: انظروا إلى هذه المرأة المجنونة نعذبها وهي تضحك، إنها استعذبت ذلك في سبيل الله؛ لأنها وثقت بموعود الله وهي تقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[التحريم: 11].

·   ثبات الإمام أحمد رحمه الله في محنة خلق القرآن حيث طلب منه أن يقول أن القرآن مخلوق، فرفض فأدخل السجن، وعذب تعذيبًا شديدًا، لكنه ثبت ثبات الجبال فكان ناصرًا للحق.

وهنا العديد من الأمثلة التي سطر أصحابها أروع الأمثلة في الثبات على دين الله عز وجل وقت المحن والفتن، فالمتتبع لسير هؤلاء يجد العجب، ويجد القوة في التمسك بالدين، والثبات عليه، فلا يتزحزح ولا تأخذه رهبة الباطل، وجوره.

نسأل الله أن يرينا الحق حقاً وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يثبتنا على هذا الدين حتى نلقاه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين


1 رواه أبو داوود (3719)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الترغيب والترهيب رقم (2743).

2 فتح القدير (1/251).

3 الصحاح في اللغة (2/33).

4 التعريفات (1/52).

5 فتح الباري لابن حجر (20/86).

6 تفسير ابن كثير (1/525).

7 تفسير الطبري (19/7).

8 فتح القدير (7/458).

9 فتح القدير (2/204).

10 تفسير ابن كثير (8/88).

11 فتح الباري لابن حجر (2/291).

12 إغاثة اللهفان (2/ 165-167) بتصرف.

13 مسلم (207).

14 البخاري (18)، ومسلم (4950).

15 البخاري (789)، ومسلم (925).

16 أبو داود (3717)، وصححه الألباني انظر: إرواء الغليل (8/101).