مفسدات القلب

مفسدات القلب

 

الحمد لله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن القلب محل نظر الله عز وجل، فهو سبحانه لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أجسامنا، وإنمـا ينظر إلى قلوبنا، وأعمالنا، وما دام الأمر كذلك فلا بد من الحفاظ على القلوب، والعناية بها حتى تكون سليمة من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، وقد عد العلامة ابن القيم عليه رحمة الله خمس مفسدات يمكن أن تفسد القلب، ومن هذه المفسدات:

أولاً: كثرة المخالطة؛ فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسودّ، يوجب له تشتتاً وتفرقاً، وهماً وغماً، وضعفاً، وحملاً لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء، وإضاعة لمصالحة والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم، فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟ هذا وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة؟ وأنزلت من محنة، وعطلت من منحة، وأحلت من رزية، وأوقعت في بلية؟ وهل آفة الناس إلا الناس؟ … وهذه الخلطة التي تكون على نوع مودة في الدنيا وقضاء وطر بعضهم من بعض تنقلب إذا حقت الحقائق عداوة ويعض المخلط عليها يديه ندما كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا}[الفرقان: 27 – 29]. ولكن ليس كل خلطة ضارة فمنها ما هو نافع ومفيد ولا بد.

والضابط النافع في أمر الخلطة: أن يخالط الناس في الخير؛ كالجمعة والجماعة، والأعياد والحج، وتعلم العلم والجهاد، والتضحية، ويعتزلهم في الشر، وفضول المباحات. فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، ولم يمكنه اعتزالهم: فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم؛ فإنهم لا بد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر. ولكن أذى يعقبه عز ومحبة له وتعظيم، وثناء عليه منهم ومن المؤمنين ومن رب العالمين، وموافقتهم يعقبها ذل وبغض له ومقت وذم منهم ومن المؤمنين ومن رب العالمين1.

ثانياً: ركوب القلب بحر التمني، وهذا بحر لا ساحل له، وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم؛ كما قيل: إن المنى رأس أموال المفاليس، وبضاعة ركابه مواعيد الشيطان، وخيالات المحال والبهتان. فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة، والخيالات الباطلة تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، وهي بضاعة كل نفس مهينة وخسيسة سفلية.. وصاحب الهمة العامة أمانيه حائمة حول العلم والإيمان، والعمل الذي يقربه إلى الله، ويدنيه من جواره. فأماني هذا إيمان ونور وحكمة.. وأماني أولئك خدع وغرور2..

ثالثاً: التعلق بغير الله- تبارك وتعالى-، وهذا من أعظم مفسداته على الإطلاق، فليس عليه أضر من ذلك، ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه، فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من  الله عز وجل بتعلقه بغيره، والتفاته إلى سواه، فلا على نصيبه من الله حصل ولا إلى ما أمله ممن تعلق وصل، قال الله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}[مريم: 81، 82] فأعظم الناس خذلاناً من تعلق بغير الله، فإنما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات، وقلب المتعلق بغير الله؛ كمثل المستظل من الحر والبر ببيت العنكبوت أوهن البيوت.

رابعاً: الطعام (التوسع فيه)، والمفسد له – أي القلب- من ذلك نوعان:

أحدهما: ما يفسده لعينه، وذاته كالمحرمات، وهي نوعان: محرمات لحق الله، كالميتة والدم ولحم الخنزير.. ومحرمات لحق العباد، كالمسروق والمغصوب، والمنهوب.. وما أخذه بغير رضا صاحبه إما قهراً وإما حياءً وتذمماً.

والثاني: ما يفسده بقدره، وتعدي حده، كالإسراف في الحلال، والشبع المفرط، فإنه يثقله عن الطاعات، ويشغله بمزاولة مؤنة البطنة ومحاولتها، حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرفها ووقاية ضررها، والتأذي بثقلها، وقوى عليه مواد الشهوة، وطرق مجاري الشيطان ووسعها.. ومن أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً فخسر كثيراً. وفي الحديث المشهور: ((ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه، وثلث لنفسه))3. ويحكى أن إبليس عرض ليحيى بن زكريا عليهما السلام فقال له يحيى: هل نلت مني شيئاً قط؟ قال: لا إلا أنه قدّم إليك الطعام ليلة فشهيته إليك حتى شبعت منه، فنمت عن وردك، فقال يحيى: لله عليّ أن لا أشبع من طعام أبداً، فقال إبليس: وأنا لله علي أن لا أنصح أدمياً أبداً.

خامساً: كثرة النوم، فإنه يميت القلب، ويقتل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة، والكسل… وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه وكثر ضرره ولا سيما نوم العصر والنوم أول النهار إلا لسهران، ومن المكروه عندهم: النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس فإنه وقت غنيمة وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة، حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس، فإنه أول النهار ومفتاحه ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة، فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر، وبالجملة فأعدل النوم وأنفعه: نوم نصف الليل الأول وسدسه الأخير، وهو مقدار ثمان ساعات، وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه4.

ويمكن حماية هذا القلب من هذه المفسدات، بالابتعاد عنها، وفعل كل ما يكون به صلاح هذا القلب. نسأل الله أن يصلح فساد قلوبنا، وأن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شرور أنفسنا، إنه نعم المولى ونعم النصير. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.


1 انظر: مدارج السالكين (1/455- 456).

2 انظر: مدارج السالكين (1/456 – 457).

3 صححه الألباني في الصحيحة برقم (2265).

4 انظر: " مدارج السالكين" (1/457-459) بتصرف.