إنما الركعة بالركوع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
من المعلوم أن الصلاة تبطل إذا لم يتم المصلي أركانها وفرائضها، لكن قد اختلف أهل العلم في المأموم إذا ترك بعض الأركان هل يجبرها عنه الإمام؟ وأقوال العلماء فيما تدرك به الركعة إلى مذهبين:
المذهب الأول: أن الركعة تدرك بالركوع وهو قول الجمهور من الحنفية1 والمالكية2 والشافعية3 والحنابلة4.
واستدلوا بأدلة كثيرة منها:
الأول: حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((زادك الله حرصاً ولا تعد))5، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعادة الركعة علماً بأنه قد ركع قبل الصف.
الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة))6.
الثالث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة))7 والمقصود بالركعة الانحناء.
الرابع: آثار الصحابة:
1- عن عطاء أنه سمع عبد الله بن الزبير على المنبر يقول للناس: (إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل، ثم ليدب راكعاً حتى يدخل في الصف فإن ذلك السنة)8.
2- وعن زيد بن وهب قال: (خرجت مع عبد الله من داره إلى المسجد، فلما توسطنا المسجد ركع الإمام، فكبر عبد الله ثم ركع وركعت معه، ثم مشينا راكعين حتى انتهينا إلى الصف حتى رفع القوم رؤوسهم، قال فلما قضى الإمام الصلاة قمت أنا وأنا أرى لم أدرك، فأخذ بيدي عبد الله فأجلسني، وقال: إنك قد أدركت)9.
3- وعن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال: (إذا جئت والإمام راكع فوضعت يديك على ركبتيك قبل أن يرفع رأسه فقد أدركت)10.
المذهب الثاني: أن الركعة لا تدرك بالركوع، فلا بد من إدراك قراءة الفاتحة وهو قائم قبل ركوع الإمام، وهو قول الإمام ابن حزم الظاهري وغيره من أهل العلم، قال في المحلى: "فَإِنْ جاء والأمام رَاكِعٌ فَلْيَرْكَعْ معه، وَلاَ يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ لأنه لم يُدْرِكْ الْقِيَامَ وَلاَ الْقِرَاءَةَ، وَلَكِنْ يَقْضِيهَا إذَا سَلَّمَ الإِمَامُ، فَإِنْ خَافَ جَاهِلاً فَلْيَتَأَنَّ حتى يَرْفَعَ الإِمَامُ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ فَيُكَبِّرْ حِينَئِذٍ"11، واستدلوا بما يلي:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا))12 ووجه الاستدلال: أن الحديث دل على وجوب إتمام ما فات من الصلاة، ومن أدرك الإمام في ركوعه فقد فاته القيام، فيجب عليه قضاء ما فاته.
2- وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة فقال: ((صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب))13، ووجه الاستدلال: أن القيام ركن من أركان الصلاة، فمن فاته القيام وجب عليه قضاؤه.
3- وعن عبادة بن الصامت أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))14، ووجه الاستدلال: أن الحديث دل على وجوب قراءة الفاتحة، والمسبوق الذي أدرك الركوع لم يقرأ الفاتحة، فيجب عليه قضاؤها.
واستدلوا من آثار الصحابة بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (من أدرك القوم ركوعاً فلا يعتد)15، قال ابن عبد البر: وفي إسناده نظر16.
وعن نَافِعٍ مولى ابْنِ عُمَرَ قال: كان ابن عُمَرَ إذَا جاء وَالْقَوْمُ سُجُودٌ سَجَدَ مَعَهُمْ، فإذا رَفَعُوا رؤوسهم سَجَدَ أُخْرَى وَلاَ يَعْتَدُّ بها17.
المناقشة والترجيح:
بالنظر إلى أدلة الفريقين يتضح لنا أن سبب الخلاف كما يقول ابن رشد: "تردد الركعة بين أن يدل على الفعل نفسه الذي هو الانحناء فقط، أو على الانحناء والوقوف معاً، وذلك أنه قال عليه الصلاة والسلام: ((من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة))، فمن كان اسم الركعة ينطلق عنده على القيام والانحناء معاً قال إذا فاته قيام الإمام فقد فاتته الركعة، ومن كان اسم الركعة ينطلق عنده على الانحناء نفسه جعل إدراك الانحناء إدراكاً للركعة، والاشتراك الذي عرض لهذا الاسم إنما هو من قبل تردده بين المعنى اللغوي، والمعنى الشرعي"18.
وبالنظر إلى ما استدل ابن حزم ومن وافقه نجد أنه استدل بالعموم في الأحاديث التي ذكرناها آنفاً، وهذا العموم قد خصص بأحاديث، وخير مخصص لذلك حديث أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه أنه أتى المسجد ذات يوم والنبي صلى الله عليه وسلم راكع؛ فركع دون الصف، ثم دخل في الصف، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال له صلى الله عليه وسلم: ((زادك الله حرصاً ولا تعد)) ولم يأمره بقضاء الركعة.
وقد سئل العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله عن هذه المسألة فأجاب:
"الصحيح أنه إذا أدرك الركوع يعتبر مدركاً للركعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل أبو بكرة الثقفي رضي الله عنه وهو راكع معه دون الصف، ثم دخل معه في الصف، قال له النبي صلى الله عليه سلم: ((زادك الله حرصاً ولا تعد))، ولم يأمره بقضاء الركعة، فدل ذلك على أنه معذور، وهذا يخصص قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))، وهذا عام للإمام والمنفرد، فمتى تركها – أي الفاتحة – الإمام أو المنفرد وجب عليه الإعادة إذا طال الفصل، فإن لم يطل الفصل أتى بركعة واحدة بدلاً من الركعة التي ترك قراءة الفاتحة، وسجد للسهو فيها إذا كان ذلك سهواً، فإن كان عمداً فإنه يعيدها بكل حال؛ لكونها باطلة"19.
والحمد لله رب العالمين.
1– فتح القدير (1/344).
2 – بداية المجتهد (1/135).
3 – مغني المحتاج (1/276).
4 -كشاف القناع (1/540).
5 – أخرجه البخاري (1/271)؛ وأبو داود (1/239)؛ والنسائي (2/118)؛ وأحمد في المسند (5/39).
6 – أخرجه أبو داود (1/298)؛ والبيهقي في السنن الكبرى (2/89)، وضعفه الألباني في الإرواء (2/260).
7 – أخرجه البخاري (1/211)؛ ومسلم (1/423).
8 – أخرجه ابن خزيمة (3/32)؛ والحاكم في المستدرك (1/331)، وصححه على شرطهما.
9 – أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/229).
10 – أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/229).
11 – المحلى (3/244).
12 – أخرجه البخاري (1/228)؛ ومسلم (1/423).
13 – أخرجه البخاري (1/376).
14 – أخرجه البخاري (1/263)؛ ومسلم (1/295).
15 – أخرجه البخاري في كتاب القراءة (62).
16 – التمهيد (7/72)؛ الاستذكار (1/62).
17 – المحلى (3/246).
18 – بداية المجتهد (1/135).
19 – فتاوى ومقالات عبد العزيز بن باز (30/ 155).