عمارة المساجد

عمارة المساجد

 

الحمد لله الذي جعل في الأرض بيوتاً للعبادة، وأمكنة تحصل فيها كل راحة وسعادة، والصلاة والسلام على رسول الله الذي جعل المسجد منطلقاً لكل ريادة، ومجتمعاً للمؤمنين ومركزاً للقيادة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ذوي الشرف والسيادة، الذين عمروا المساجد طلباً لجنة الله والزيادة، وسلم تسليماً مزيداً.. أما بعد:

فيقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}[التوبة: 18].

والعمارة تشمل أمرين:

الأول: العمارة المادية: وتكون ببناء المساجد وتجهيزها بما يريح الرواد إليها؛ بحيث يؤدون العبادات في جو هادئ ومناسب، وإيجاد المسجد فرض كفاية لأهل المحلة أو البلدة المتقاربة المساكن؛ لأنه لو لم يبن مسجد لضاعت الصلوات، وليس من اللازم بناء مسجد على الهيئة المعروفة، ولكن اتخاذ مكانا للصلاة سواء كان مبنياً، أو كان محلاً من أرض معروفة لأداء الصلاة فيه.. وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في بناء المساجد وإنشائها، ففي مسند أحمد وصحيح البخاري ومسلم وسنن الترمذي وابن ماجه عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة))، وروى أحمد في مسنده عن ابن عباس بإسناد صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتاً في الجنة)) ومفحص القطاة: هو عش الطائر، والمقصود المبالغة في الصغر، فكيف بمن بنى مسجداً أكبر وأعظم، من حيث التهيئة الكاملة، والمرافق التي يحتاجها المسجد، من بناء حمامات، ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم، أو أماكن تجارية يعود ريعها لصالح بيت الله، لا شك أن ذلك أعظم في الأجر والثواب.

الثاني: العمارة الإيمانية: والمقصود بذلك الهدف الذي بني له المسجد، وهذه العمارة أعظم؛ لأنه لا فائدة من مسجد معمور ومهيأ ولا يدخله أحد من المصلين، يقول تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[التوبة: 19]. وذلك أن المشركين زعموا أن عمارة المسجد الحرام بالتهيئة والسقاية للحاج والسدانة وغيرها، أفضل من الإيمان بالله وعمل الصالحات والجهاد، فرد الله عليهم بأنهم لا يستوون عند الله.. كيف يستوون! وأولئك قائمون لله بأنواع الطاعات، والقربات؟! فليس كل من عمر مسجداً وولى عنه بحيث لا يصلي فيه ولا في غيره يعتبر من المؤمنين لكونه عمر مسجداً، بل لا بد من دخول المساجد للعبادة، والذكر وإلا لضاع الهدف من إقامة المسجد.. وفي هذه العمارة الإيمانية التعبدية يقول الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور: 36-37].

والمقصود أن العمارة بالصلاة، والدعاء، والابتهال، والصدقات، والتكافل الاجتماعي، وما أشبه ذلك لا يقوم بها إلا مؤمن، ولا يمكن لكافر أن يعمر مساجد الله بهذه الصفة، لأنه شاهد على نفسه بالكفر، وهو أصلاً لم يدخل الإسلام حتى يعمرها، ولهذا يقول الله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}[التوبة: 17].

وفي العمارة الإيمانية يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)) رواه مسلم.

نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا من عمار بيوته، ومن الذين يسبحون فيها بالغدو والآصال، والحمد لله رب العالمين.