محاسبة النفس

 

 

محاسبة النفس

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد على آله وصحبه أجمعين.أما بعد:

فإن لمحاسبة الإنسان نفسه أهمية عظمية، وعليها تدور السعادة، ولا صلاح للقلب إلابها، وبها يعرف الإنسان عيوب نفسه، ويفوز في الأولى والأخرى، ولذلك فقد أمر الله سبحانه بمحاسبة النفس، فقال سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر: 18-19]. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض خطبه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً: أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية1.

وقال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللاً تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصراً في أمر من أوامر الله بذل جهده، واستعان بربه في تتميمه، وتكميله، وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه، وبين تقصيره هو في حق الله، فإن ذلك يوجب الحياء لا محالة.. والحرمان كل الحرمان أن يغفل العبد عن هذا الأمر!! ويشابه قوماً نسوا الله، وغفلوا عن ذكره، والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم، وشهواتها، فلم ينجحوا، ولم يحصلوا على طائل بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطاً، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبناً لا يمكن تداركه، ولا يجبر كسره؛ لأنهم: هم الفاسقون، الذين خرجوا عن طاعة ربهم، وأوضعوا في معاصيه2.

وعَنْ أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى عَلَى اللَّه!))3. قال النووي رحمه الله: قال الترمذي وغيره مِنْ العلماء: معنى: “دان نفسه” حاسبها4. ولذلك فإنه لابد من محاسبة النفس، وذمها على التقصير في حق الله تعالى، وذلك أن النفس خطرها عظيم، وشرها مستطير، وهي داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك، توّاقة إلى اللهو والهوى – إلا من رحم الله-، قال الله تعالى: {فَأَمَّامَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى *وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 37-41]. ولقد كان السلف يحاسبون أنفسهم محاسبة مستمرة، فهذا أبو بكر الصديق يحاسب نفسه،فيأخذ بلسان نفسه ويقول: “هذا أوردني الموارد”5. وهذا عمر الفاروق يحاسب نفسه كذلك؛ فعن أنس قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يوماً وقد خرج، وخرجت معه حتى دخل حائطاً، فسمعته يقول: أمير المؤمنين!! بخٍ! بخٍ!والله لتتقينَّ الله أو ليعذبنَّك!6. وقال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَاأُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة: 2].”لا تلقى المؤمن إلا وهو يعاتب نفسه، ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ ماذا أردتُ بشربتي؟ والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه!”7.

وقال مالك بن دينار رحمه الله: “رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبةَ كذا ؟ألستِ صاحبةَ كذا؟ ألستِ صاحبةَ كذا؟ ثم ذمّها، ثم خَطمها، ثم ألزمها كتاب الله، فكان لها قائداً”8. وقال مسروق: غدوتُ يوماً، وكنت إذا غدوتُ بدأتُ بعائشة رضي الله عنها أُسلَّم عليها، فغدوتُ يوماً إليها، فإذا هي تصلّي الضُّحى، وهي تقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}[الطور: 27]. وتبكي وتدعو، وتردد الآية، وقمتُ حتى مللتُ! وهي كما هي، فلما رأيت ذلك ذهبتُ إلى السوق، فلما فرغتُ من حاجتي، رجعتُ إليها فوجدتُها كما هي! ففرغتُ ورجعتُ وهي تردد الآية وتبكي وتدعو!9. وبعد أن عرفت -أخي في الله- أهمية المحاسبة وأدلتها، وكيف كان السلف الصالح يحاسبون أنفسهم، فمن باب التعاون على البر، فقد رأيت أن أعينك على محاسبة نفسك، وذلك من خلال إرشادك إلى بعض الخطوات العملية التي ينبغي أن تسير عليها في محاسبتك لنفسك، وهي كالتالي:

1. محاسبة النفس على الفرائض؛ فإن المحافظة على الفرائض من أفضل القربات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، لحديث الولي والذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم: “وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه10. والمحافظ على الفرائض يستحيل في الغالب أن يقترف فعل الحرام، فمن حافظ على فريضة الصلاة، وأداها على الوجه المطلوب شرعاً، كفَّتْه عن ارتكاب المحرمات؛ قال الله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}[العنكبوت: 45].

2. محاسبة النفس على المحرمات؛ فإن من حاسب نفسه على ذلك فإنه سيتدارك ذلك بالتوبة والإقلاع عنها، والعزم على عدم العودة إلى فعلها، ولذلك فإنه يجب فعل الطاعات بقد المستطاع، ولكنه يجب ترك المناهي جملة وتفصيلاً؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم))11.

3. محاسبة النفس على الغفلة؛ فإن كنت قد غلفت عما لأجله خلقت فتدارك ذلك، وأقبل على الإكثار من ذكر الله، والإقبال عليه.

4. محاسبة النفس على الإسراف في المباحات؛ من فضول الكلام، والطعام، والشراب، والاختلاط، وما أشبه ذلك.

5. محاسبة النفس على فعل المفضول وترك الفاضل، أو فعل المهم وترك الأكثر أهمية، فمثلاً قيام الليل مع النوم عن صلاة الفجر، وما أشبه ذلك.

والله أسأل أن يعيننا على محاسبة أنفسنا، وأن يقينا شرور أنفسنا، وأن ينصرنا على عدونا، وأن يحسن ختامنا، وأن يتوفانا وهو راض عنَّا، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.


1 – إغاثة اللهفان (1/130).

2 – تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ( 5/213). ط: دار المدني بجدة.

3 – رواه الترمذي وقال حديث حسن (2459).

4 – انظر رياض الصالحين، باب المراقبة (66).

5 – رواه مالك في الموطأ (1788).

6 – مختصر منهاج القاصدين صـ (411).

7 – إغاثة اللهفان لابن القيم (1/130). ط: المكتب الإسلامي.

8 – إغاثة اللهفان لابن القيم(1/132).

9 الرقة والبكاء صـ(92).

10 – رواه البخاري.

11 – رواه مسلم.