الوسطية والاعتدال
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فإن دين الله عز وجل وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، وإن الشيطان حريص على إخراج المرء من طريق الاعتدال، ولا يبالي أكان ذلك بتفريط منه أو إفراط, والموفَّق من وفقه الله تعالى، ولذا فالمؤمنون يدعون ربهم في أشرف عباداتهم وهي الصلاة قائلين : {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 6-7]، والمغضوب عليهم هم أهل الإفراط والغلو, والضالون هم أهل التفريط والجفاء، ولا يلزم من ذلك أن كلا الطائفتين سالمة من عيب الأخرى، فاليهود فيهم إفراط وجفاء، والنصارى فيهم تفريط وغلو… وبقدر فهْم المرء دينه فهما صحيحا بقدر تحقيقه ما أوجبه الله عليه في الاعتدال، وعكسُه عكسُه، ومن فهم مراد الله عز وجل ومراد رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولزم سبيل المؤمنين أمن الفتنة، وكان مفتاح خير على نفسه وعلى غيره، وانتفع ونفع، وصلح وأصلح، بخلاف من اضطرب في هذا الباب، فإنه يبني ثم يهدم، وربما كان ضرره أعظم من نفعه، واعلم أنه ليس كل من وقف بين طائفتين أو مقالتين فهو على الوسطية، فقد يكون من كان كذلك مذموماً، كالمنافقين الذين قال الله تعالى فيهم: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}[النساء: 143]، إنما لابد أن يكون على حق بين باطلين، وهدى بين ضلالتين، وأن يكون كالوادي الموطوء السهل بين الجبلين الوعرين.
ونحن نرى في زماننا فرقا ضالة كالرافضة وغلاة الصوفية الخرافية بل الماسونية والعلمانية وأهل الفجور يزعمون أنهم على الوسطية، وأصبح كثير من الناس يدّعون الوسطية، مع أنهم في أقصى اليمين أو الشمال.
والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء؛ فالسنة المحضة هي الإسلام المحض، وهي الوسطية، قال شيخ الإسلام : "….صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشَّوْب هم أهل السنة والجماعة"1.
وقال رحمه الله : "وهذا الصراط المستقيم هو دين الإسلام المحض، وهو ما في كتاب الله تعالى، وهو السنة والجماعة؛ فإن السنة المحضة هي دين الإسلام المحض…" وذكر حديث الافتراق والفرقة الناجية، وهي الجماعة، ثم قال: "وهذه الفرقة الناجية أهل السنة، وهم وسط في النِّحَل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل" ا.هـ2.
ومن تأمل منهج أهل السنة والجماعة يجد أنه تميز عن الفرق الأخرى بخصائص، فكان من ثمرتها على أهل السنة سلوك مسلك الوسطية، فمن هذه الخصائص:
1- سلامة مصدر التلقِّي: للكِتاب والسنة والإجماع، قال شيخ الإسلام: "ويزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة وظاهرة مما له تعلّق بالدين" ا.هـ3.
وقال شيخ الإسلام: "وكذلك في سائر أبواب السنة هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان"ا.هـ4.
وقال في وصْف الفرق المخالفة للسنة: "وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة"ا.هـ5.
2- التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال الطحاوي: "ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام"6 وذلك لأن العقول لا تدرك الغيب، ولا تستقل بمعرفة الشرائع على سبيل التفصيل؛ لعجزها وقصورها، أما الآخرون فيحكِّمون آراءهم وعقولهم وأهواءهم على النصوص، ومنشأ فساد الأمم والأديان إنما هو تقديم العقل على النقل، والرأي على الوحي، والهوى على الهدى.
3- موافقة منهجهم للفطرة السليمة، فالنقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح، وأما غيره من منهاج فهو مجموع أوهام وتخرُّصات، تُعمي الفطر, وتُبلِّد العقول.
4- اتصال سند هذا المنهج بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والصحابة والتابعين، وأئمة الدين، فالخلف أتباع للسلف، والعبرة بالأمر العتيق، وما لم يكن بالأمس ديناً، فليس اليوم بدين.
5- الوضوح والسهولة والبيان قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}[القمر: 17]، فلا تعقيد في هذا المنهج ولا غموض، ولا التواء.
6- السلامة من الاضطراب والتناقض واللبس كما قال الله عز و جل: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}[النساء: 82].
7- العموم والشمول والصلاحية لكل زمان ومكان، ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخر الرسل، وشريعته آخر الشرائع، والناس جميعا مخاطبون بها قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف: 158]، وقال تعالى: {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}[الأنعام: 17]، فلا بد أن تكون شريعته صالحة لكل زمان ومكان، ولذلك وجدت قواعد عند علماء السنة تحكم كل جزئية مستحدثة بحكم من أحكام الشرع، وتلحق الجزئيات بالكليات، والفروع بالأصول، وترد الأشباه والنظائر إلى بعضها، فتجمع بين المتماثلين، وتفرق بين المختلفين، كالقياس، والأصل في الأشياء الإباحة، والعمل بالعرف والمصالح المرسلة مالم يخالف ذلك نصا… الخ.
8- الثبات والاستقرار أمام الضربات المتوالية، مما جعل المتمسكين بها أهل قوة في حجتهم، أو تمكين وظهور على غيرهم، ولا يمكن أن يزيلهم عدوهم بالكلية: فما أن يظن أعداؤها أن عظمها قد وهن، وأن جذوتها خبتْ، حتى تعود جذعة ناصعة نقية، فهي ثابتة على مر التاريخ، لم تفت في عضدها تحريفات الغالين وتأويلات الجاهلين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، فلم يحرف متأخرو أهل السنة ما كان عليه سلفهم، كما هو الحال في الفرق الأخرى، ومهما ملأت دعوة غير دعوة الكتاب والسنة الدنيا ضجيجا وصراخا، وبلغت أوج مجدها إلا وانفرط عقدها، وهدم نظامها على أيدي أتباعها، كما حصل للشيوعية.
أما أهل السنة فلا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة، وذلك لسلامة إيمانهم، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}[الأنعام: 82]، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق…))7 فمتى أخذت الأمة بهذه العقيدة؟ ظهرت على عدوها، وإلا تصدّع كيانها، وتفرقت كلمتها، وتسلط عليها عدوها، ثم إن الأمة الزائغة عن عقيدتها الصحيحة، المنحرفة عن منهاج دينها القويم؛ لا تلبث أن تهبط من عليائها، وتنزل من شامخ عزها، وتشرف على حضيض التلاشي والفناء، فتلقى صَغاراً بعد شمم، وخمولاً بعد نباهة, وذلاًّ بعد عزة، وحطة بعد رفعة، وجهلاً بعد علم، وتقاطعاً بعد ائتلاف، فما الذي أضاع الأندلس، وأغرى النصارى باحتلالها وإذلال أهلها؟ وما الذي سلّط التتار حتى شنوا غارتهم الشعواء على حاضرة الإسلام فذهب ضحيتها قرابة المليونين، وتقوّض بسببها صَرْح الخلافة الإسلامية؟ وما الذي سلط الأعداء على المسلمين في هذا الزمان إلا زيغ العقيدة، وانتشار الأهواء وإعجاب كل ذي رأي برأيه؟!
ومع هذا، فلا يزال في الأرض من ينادي بقوة بهذه العقيدة المباركة، والسلسلة متصلة حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك.
9- تدعو إلى الألفة والاجتماع.
10- التميز والمفارقة للباطل.
11- سلامة القصد والعمل.
12- التأثير على السلوك والأخلاق والمعاملة، فليست عقيدة مفرغة، بل لا بد فيها من العمل وفق ما جاءت به الشريعة، العلم يهتف بالعمل، إن أجابه وإلا ارتحل.
13- ربط خلف الأمة بسلفها.
14- عبادة الله بأسمائه وصفاته جلا وعلا.
15- لا تنافي العلوم الدنيوية النافعة.
16- تقدّر مكانة العقل، وتحدِّد مجاله.
17- تعترف بالعواطف والشهوات الإنسانية، وتوجهها وجهة صحيحة.ا هـ8
18- لا معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
19- الإجماع حجة شرعية.
20- عدم إحداث قول لم يقل به العلماء المتقدمون، قال شيخ الإسلام في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: 100] قال: "فمن اتبع السابقين الأولين كان منهم….. ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيراً وانفع من أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله… فإنهم أفضل ممن بعدهم، كما دل عليه الكتاب والسنة، فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم خير وانفع من معرفة ما يُذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم، وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوماً، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يُحْكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يُعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه؛….لأن كثيراً من أصول المتأخرين محدث مبتدع في الإسلام، مسبوق بإجماع السلف على خلافه، والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعاً… وأيضاً فلم يبق مسألة في الدين إلا وقد تكلم فيها السلف، فلابد أن يكون لهم قول يخالف ذلك القول أو يوافقه". ا هـ9.
وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.