عمارة المساجد المعنوية

عمارة المساجد المعنوية

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فتعتبر المساجد من أبرز معالم الإسلام ومكونات المجتمع الإسلامي، ومن أبرز المؤسسات التي تحفظ للأمة الإسلامية تاريخها الماضي وتربطه بواقعها الحاضر.

ولقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم المساجد أمارات تدل على إسلام أهل البلد، ومما يدل على ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغِيرُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ, وَكَانَ يَسْتَمِعُ الْأَذَانَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِلَّا أَغَارَ)1. وهذا دليل على ما للمساجد من أثر بالغ في الإسلام، حيث يعتبر وجودها وعمارتها بالأذان والصلاة صورة حية للمجتمع الإسلامي، كما يعني فقدها أو فقد عمارتها بعبادة الله تعالى ابتعاد المجتمع عن الإسلام وتلاشي مظاهره من واقع المجتمع2.

إن من يعمر بيوت الله هم المؤمنون الذين وصفهم الله بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النــور: 36-37].

ويقول تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}[التوبة: 17-18].

لقد نفى الله سبحانه في الآية الأولى نسبة عمارة المساجد للمشركين، حيث كان المشركون في مكة مخدوعين بأعمالهم التي كانوا يقومون بها في خدمة المسجد الحرام وخدمة الحجاج إليه، كما قال الله تعالى في الآية التي بعد هاتين الآيتين: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[التوبة: 19]. ويرون أنَّ ما يقومون به من ذلك أعظم مما يقوم به المسلمون من عمارة بيوت الله تعالى بعبادته وحده، فكيف يعتقد المشركون ذلك وهم يعترفون بكفرهم بالله جل وعلا!!

إن أعمالهم تلك التي تخيلوها صالحة ليست كذلك في الحقيقة؛ لأن العمل الصالح المقبول عند الله تعالى لا بد أن يكون خالصًا له سبحانه, لا يخالطه شيء من الشرك، وأن يكون على وفق شريعته جل وعلا فأما أعمالهم فإنها باطلة لا يستفيدون منها في الآخرة، بل إن مصيرهم الخلود في النار.

إنما يعمر مساجد الله تعالى على الحقيقة من جمع الصفات الخمس المذكورة في الآية الثانية، وهي: الإيمان بالله سبحانه إيماناً صادقاً لا تشوبه أيُّ شائبة من الشرك, وآمن باليوم الآخر بما فيه من حساب وثواب أو عقاب، وجعل عمله كله مبنياً على هذا الإيمان، وأقام الصلاة التي هي عمود الإسلام ورأس العبادات البدنية، وآتى الزكاة التي هي رأس العبادات (المالية)، ولم يخش إلا الله جل وعلا، والخشية أثر من آثار الإيمان بالله سبحانه وباليوم الآخر، ولكن جاء النص على الخشية من أجل تجريد القلوب من تعظيم أي مخلوق، وتفريغها لتعظيم الله سبحانه وحده، حيث إن الحامل الأكبر للمشركين على الشرك خوفهم من غير الله تعالى وذلك أنهم اعتقدوا بأن أوثانهم تضر وتنفع.

فهؤلاء المؤمنون المتقون الذين جمعوا تلك الصفات هم من الذين وفقهم الله سبحانه للطريق المستقيم الموصل إلى رضوانه وجنته3.

فعمارة المساجد إذن ليس بتشييدها وبنائها فحسب ثم لا نجد فيها مصلياً أو متعلماً أو تالياً، بل إن الهدف الأكبر من إعمار المساجد وبنائها هو إقامة ذكر الله فيها، والبناء ليس مقصوداً لذاته وإنما ليقي المسلمين من الحر والبرد والمطر، وإلا فبإمكان المصلين الصلاة من غير بناء في أرض أو برية أو بطحاء وغير ذلك، ومما يؤسف له اليوم في بعض الدول والمناطق تشييد المساجد وزخرفتها والتكاليف الباهظة في ذلك ثم لا تجد فيها إلا قلة قليلة من المصلين، أما الباقون فهم في غمرة ساهون، وفي غفلة غادون ورائحون، ولا حول ولا قوة إلا بالله..

لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة عمارة المساجد بالطاعة والقربة والذكر والتعليم والتعلم كما في حديث أَبِي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) رواه مسلم وأبو داود.

وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ). رواه البخاري ومسلم.

ومعنى (النُّزُل) هو ما يهيأ للضيف عند قدومه.

ومن عمارة المساجد المعنوية كثرة الخطا إليها وحبها، والمكث فيها لذكر الله وانتظار الصلوات إلى الصلوات، كما جاء في حديث أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ) رواه مسلم.

والنصوص الشرعية في فضل عمارة المساجد بالطاعة والقربة إلى الله كثيرة جداً، والمقصود هنا أن العمار المعنوية أعظم وأهم من العمارة المادية، كما تبين لك في ما سبق.. وليس المقصود التهوين من شأن العمارة المادية بالبناء، فإن ذلك من القربات أيضاً، ولكن ما فائدة بناء المساجد الضخمة والناس من حولها كالذر لا يصلون؟ أو حتى بعض الذين يعمرونها لا يؤدون الصلاة لا فيها ولا في غيرها، أفترى ينفعهم بناؤهم لها إن كانوا قطاعاً للصلاة؟

نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يهدي ضالهم، ويتوب على التائبين، ويدخلنا جميعاً في رحمته إنه أرحم الراحمين..

وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين.


1 رواه مسلم (ج2/ص 324) رقم (575).

2 عمارة المساجد المعنوية وفضلها (ج1/ص 2).

3 انظر: كتاب عمارة المساجد المعنوية وفضلها (ج1/ص67- 69). لـ(عبد العزيز عبد الله الحميدي) وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد -المملكة العربية السعودية-.