الأُخوَّة الإسلامية

الأُخوَّة الإسلامية

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:

فإن الأخوة الإسلامية من أروع ما أمر به الإسلام، فقد كان هذا الأمر من أول ما بدأ به الرسول مسيرته الدعوية بعد هجرته إلى المدينة.. فكما قام (ببناء المسجد) مركز التجمع والتآلف قام بعمل آخر من أروع ما سطره التاريخ، وهو عمل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

قال ابن القيم رحمه الله: ثم آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك وكانوا تسعين رجلاً، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}[الأنفال: 75]، رد التوارث، دون عقد الأخوة.

وقد قيل: إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية والثّبتُ الأول، والمهاجرين كانوا مستغنيين بأخوة الإسـلام وأخـوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة، بخلاف المهاجرين مع الأنصار أ.هـ1

لقد أقام الرسول المجتمع على الإخاء الكامل، الإخاء الذي تمحى فيه كلمة "أنا" ويتحرك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها، فلا يرى لنفسه كياناً دونها ولا امتداداً إلا فيها. ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه. وقد جعل الرسول هذه الأخوة عقداً نافذاً؛ لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال؛ لا تحية تنطق بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.. !!

وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال… حرص الأنصار على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين، فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعه!! وقدر المهاجرون هذا البذل الخالص فما استغلوه، ولا نالوا منه إلا بقدر ما يتوجهون إلى العمل الحر الشريف.

روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم مالي نصفيـن، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك، فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتهـا فتزوجها، قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن!! ثم تابع الغدو، ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهيم)؟ يسأل عن حاله قال: تزوجت. قال: (كم سقت إليها) قال: نواة من ذهب!2.

وإعجاب المرء بسماحة "سعد" لا يعدله إلا إعجابه بنبل عبد الرحمن، هذا الذي زاحم اليهود في سوقهم، واستطاع بعد أيام أن يكسب مايعف به نفسه ويحصن به فرجـه!! إن علو الهمـة من خلائق الإيمان، وقبح الله وجوه أقوام انتسبوا للإسلام فأكلوه، وأكلوا به حتى أضاعوا كرامة الحق في هذا العالم.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخ الأكبر لهذه الجماعة المؤمنة، لم يتميز عنهم بلقب إعظام خاص، ففي صحيح البخاري قال: (لو كنت متخداً من أمتي خليلاً لاتخذته –يعني أبا بكر- ولكن أخوة الإسلام أفضل)3.

والإخاء الحق لا ينبت في البيئات الخبيثة، فحيث يشيع الجهل والغش والجبن والبخل والجشع لا يمكن أن يصح إخاء، أو تترعرع محبة، ولولا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جبلوا على شمائل نقية، واجتمعوا على مبادئ رضية؟ ما سجلت لهم الدنيا هذا التآخي الوثيق في ذات الله سبحانه وتعالى.

فسمو الغاية التي التقوا عليها، وجلال الأسوة التي قادتهم إليها، نمّا فيهم خلال الفضل والشرف، ولم يدع مكاناً لنجوم خَلة رديئة. ثم إن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان إنساناً تجمع فيه ما تفرق في عالم الإنسان كله من أمجاد ومواهب وخيرات، فكان صورة لأعلى قمة من الكمال يمكن أن يبلغها بشر، فلا غرو إذا كان الذين قبسوا منه وداروا في فلكه رجالاً يحيون بالنجدة والوفاء والسخاء. إن الحب كالنبع الدافق يسيل وحده، ولا يتكلف استخراجه بالآلات والأثقال والأخوة لا تفرض بقوانين ومراسيم، وإنما هي أثر من تخلص الناس من نوازع الأثر والشح والضعة وقد تبُودِلت الأخوة بين المسلمين الأولين لأنهم ارتقوا –بالإسلام – في نواحي حياتهم كلها فكانوا عباد الله إخـواناً. ولو كانوا عبيد أنفسهم ما أبقى بعضهم على بعض!!4.

وما فتئ الرسول صلى الله عليه وسلم يسعى لغرس الأخوة في المجتمع المسلم، ويوجد التحاب في الله، مرغباً في ذلك فقد عد من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه))5.

وكذلك قوله: ((إن الله تعالى يقول يوم القيامة: "أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهـم بظلي يوم لا ظل إلا ظلي)) أخرجه مسلم.

والله تبارك وتعالى يذكر الأخوة على سبيل الامتنان على رسوله وعلى المؤمنين فقال: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: 62-63]؛ وقال: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].

إن الأخوة هي ركيزة عظيمة من ركائز المجتمع، الأخوة التي تنبثق من التقوى والإسلام وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر، ولا على أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة، هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى.

وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائماً. وهو هنا يذكرهم هذه النعمة وكيف كانوا في الجاهلية "أعداء".. وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد. وهما الحيان العربيان في يثرب. يجاورهما اليهـود الذين كانوا يوقدون هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعاً. ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه، ولا تعيش إلا معه.

 فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام.. وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمته إخواناً. وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، والأطماع الشخصية، والرايات العنصرية. ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال6.

لقد سعى النبي صلى الله عليه وسلم لتعميق الأخوة بين المسلمين، فكلما زادت الألفة بينهم والأخـوة تماسك المجتمع وقوي، والعكس بالعكس، ولقد رغب في أمور جليلة، وأعمال عظيمة، تزيد الألفة والأخوة بين المسلمين من ذلك:

1- دعوة المسلمين إلى التزاور، ففي الحديث قال عليه الصلاة والسـلام: ((إن الله عز وجل يقول: قد حقت محبتي للذين يتحابون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتصافون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي))7.

2- دعوة المسلمين إلى التودد إلى الناس وصنع المعروف لهم.

3- الدعوة إلى إفشاء السلام (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا … أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)8.

4- استحباب المصافحة: (ما من مسلمان يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا)9.

5- القيام بالأوامر السبع التي وردت في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام)10.

ومن ذلك على وجه الاختصار: عدم رد الطيب، وإكرام الضيف، وإطعام الطعام، والدعوة إلى التعاون على البر والتقوى، واستحباب طلب الرفقة، وإنزال الناس منازلهم، والدعوة إلى تفريج كرب المسلمين، والستر عليهم، ورعايتهم، والإنفاق عليهم، وكذلك الدعوة إلى حسن الكلام، ومقابلة السيئة بالحسنة، وكذلك الدعوة إلى الرفق بالمسلمين، وإصلاح ذات البين.

وكذلك الدفاع عن المسلم في غيبته، والشفاعة لهم فما ليس بحرام، وعدم تعذيب المسلم أو الاعتداء عليه باللسان أو باليد، وعدم هجر المسلم لأخيه فوق ثلاث، وعدم احتقار المسلم لأخيه وإظهار الشماتة فيه، وإساءة الظن به، والنهي عن الغيبة والنميمة واللعن والقول الفاحش، وتزكية الآخرين، والنهي عن الجدل والحقد والحسد.

كل هذه الأمور حث عليها الإسلام فتجدها مبثوثة في نصوص الكتاب والسنة من أجل هدف عظيم ألا وهـو تعميق الأخوة بين المسلمين، الركيزة القوية التي يقوم عليها المجتمع المسلم.

وعندما أراد أعداء الله زعزعة المجتمع المسلم ركزوا على هذه الركيزة العظمى، كما في غزوه المريسيع- غزوة بني المصطلق- ولكن الله لهم بالمرصاد.

ذكر البيهقي بسنده: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم هناك اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري، وكان أجيراً لعمر بن الخطاب، وسنان بن يزيد: ازدحما على الماء فاقتتلا، فقال سنان: يا معشر الأنصار، وقال جهجاه: يا معشر المهاجرين، وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي.. فلما سمعها قال: قد ثاورونا في بلادنا، والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من عنده من قومه، وقال: ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم إلى غيرها… الخ11. والقصة معروفة. وكذلك في حادثة أخرى كاد الحيان من الأوس والخزرج أن يقتتلا عندما صاح أحدهم يا للأوس، وآخر يا للخزرج فثاروا إلى السلاح.

فما كان منه -عليه الصلاة والسلام- إلا أن عالج ذلك الأمر الذي يزعزع الأخوة الإسلامية.

فصاح بهم مغضباً: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)12.

وتارة أخرى يُنشئ المنافقون أعداء الإسلام مسجد الضرار من أجل تفريق المسلمين ووحدتهم، وثلم الأخوة التي بينهم، فينزل القرآن كاشفاً عن تلك النوايا الخبيثة محذراً رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرهم ومكرهم فيأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإزالته.

هكذا نرى كيف أسس النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع على هذا المبدأ العظيم مبدأ الأخوة الإسلامية لا أخوة الحسب والنسب والوطن واللون والجنس، بل أخـوة العقيدة الإسلامية، عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله.

ولم تعرف البشرية أقوى وأفضل وأطهر وأنقى من ذلك المجتمع المدني الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الأسس العظيمة.

اللهم وحد كلمة المسلمين على الدين، وألف بين قلوبهم، اللهم إنا نسألك قائداً ربانياً يُحكِّم فينا كتابك وسنة نبيك، ويجمع المسلمين على دينك ورضاك، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.. نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.. وصلى الله على رسول الله وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..

والحمد لله رب العالمين،،،


1 – زاد المعاد (3/55).

2 – صحيح البخاري (3780).

3 – صحيح البخاري (3457).

4 – فقه السيرة للغزالي (179-181).

5 – متفق عليه من حـديث أبي هريرة.

6 – ظلال القرآن 01/442-443).

7 رواه الإمام أحمد (19438) وقال محققوه: إسناده صحيح.

8 – أخرجه مسلم (54).

9 – رواه أبو داود (5212)، وصححه الألباني.

10 – متفق عليـه.

11 – دلائل النبوة ـ للبيهقى  (4/ 52).

12 – سيرة ابن هشام (1/ 555).