الرجولة المفقودة

الرجولة المفقودة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

إن أي إنسان يتمنى أن يتصف بجميع الصفات المحمودة وخاصة التي ترفع قدره بين من يحيطون به، والتي من خلالها يشار إليه بالبنان، ومن هذه الصفات صفة الرجولة، فيا ترى ما هي الرجولة الحقيقية؟ وأين شباب المسلمين اليوم من هذه الصفة الحميدة؟!  

ويخطئ الكثير في عدم التفريق بين الرجل والذكر، فكل رجل يعتبر ذكر، ولا يعتبر كل ذكر رجل، فليس كل الذكور رجالاً، ولا كل المؤمنين رجالاً، ولا كل أصحاب العضلات المفتولة، أو الشوارب المبرومة، أو اللحى المسدولة، أو العمائم الملفوفة، أو النياشين البراقة، أو الألقاب الرنانة رجالاً.

وكلمة (ذكر) غالبا ما تأتي في المواطن الدنيوية التي يجتمع فيها الجميع، مثل الخلق وتوزيع الإرث وما أشبه ذلك، أما كلمة (رجل) فتأتي في المواطن الخاصة التي يحبها الله سبحانه وتعالى.

وقد اختلف الكثير في تفسير معنى هذه الصفة، فمنهم من قال: إن الرجولة هي التي يتصف صاحبها بالقوة والشجاعة، ومنهم من قال: الرجولة هي الزعامة وتولي السلطة، وغيرهم قال: هي الكرم والضيافة …الخ.

ولكن كل هؤلاء استمدوا هذه المعاني من خلال تأثرهم بالبيئة التي يعيشون فيها.

وكل هذه المعاني لا تشمل حقيقة هذه الصفة، لأن المعنى الصحيح لهذه الصفة هو الذي ذكره الله عز وجل في كتابة العزيز، حيث بيّن حقيقة الرجولة في عدة مواضع.

وبالرغم من كثرة المسلمين في هذا الزمان، إلا أن أكبر أزمة تعانيها الأمة الآن – بعد أزمة الإيمان – هي أزمة رجولة وقلة رجال، وليست قلة شباب أو ذكور.

والمتأمل في القرآن الكريم يكتشف أن الرجولة وصف لم يمنحه الحق تبارك وتعالى إلى كل الذكور، ولم يخص به إلا نوعًا معينًا من المؤمنين، لقد منحه لمن صدق منهم العهد معه، فلم يغير ولم يبدل، ولم يهادن، ولم يداهن، ولم ينافق، ولم يتنازل عن دينه ومبادئه.

ومن خلال هذه الآيات التي سوف نسردها يتبين لك حقيقة الرجولة والصفات التي ميز الله بها الرجال عن غيرهم من الذكور:

1 – يقول الله سبحانه وتعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}[ الأحزاب: 23]، أي صدقوا ووفوا بعهد الله ورسوله ومستمرين عليه، فبين سبحانه صفات الرجولة بعد أن أكد أنه من المؤمنين رجال وليس كل المؤمنين رجالاً..

2 – ويقول الله سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور 36-37]، أي هم من أهل المساجد الذين يذكرون الله ويسبحونه، ولا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، وإقامة الصلاة في أوقاتها، وأداء الزكاة المفروضة، ويخافون من يوم القيامة، وإلى أي مصير يصيرون. إنها الرجولة الحقة؛ رجولة تعني ثبات على الحق، ومحافظة على العبودية لله، وصمود أمام مغريات الدنيا وشهواتها، وكل ما يشغل الناس العاديين ويلهيهم عن ذكر الله تعالى وطاعته والتقرب إليه.

3 – ويقول الله سبحانه وتعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}[التوبة: 108]، أي يتطهرون بالوضوء والغسل، ويحرصون عليه عند عروض موجبه، والله يحب الذين يتطهرون من الحدث ومن الذنب.

4 – ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}[يس: 20]، أي الذين يحرصون على دعوة الناس إلى اتباع طريق الأنبياء وإنقاذهم من الشرك والوقوع في المعاصي، إلى التوحيد وطاعة الله.

إن الرجولة تشجيع على مواجهة الباطل، وابتعاد عن التثبيط والتعويق للصف المؤمن – ولو بالكلمة – يفهم هذا من قصة موسى عليه السلام عندما بعث نفرًا من قومه لاستطلاع أحوال الجبابرة قبل خوض القتال معهم، فرجعوا يروون لبني إسرائيل ما رأوه من قوتهم، فأخافوهم، بينما كتم اثنان منهم أخبار قوة الجبابرة، ولم يخبرا إلا موسى- عليه السلام -، وأخذا يشجعان قومهما على الجهاد في سبيل الله، وقد استحق هذان المؤمنان على موقفهما هذا صفة الرجولة من الله تعالى الذي قال: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ}[المائدة: من الآية23].

أيها الأحبة: هذه بعض معاني الرجولة، أسأل الله تعالى أن يقيض لهذه الأمة رجالاً يعيدون لها مجدها وعزها إنه سميع مجيب الدعاء والحمد لله رب العالمين.