دروس في حفظ الوقت

دروس في حفظ الوقت

 

(الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) حكمة من الحكم المشهورة بين جماهير الأمم، وكل فرد يرددها ويكررها كلما تذكر عظمة الوقت، ولكن القليل من هؤلاء الناطقين بها من يقدر الوقت، ويحافظ على الانتفاع بساعات حياته حق الانتفاع، ولا يضيع ساعة منها في غير فائدة دينية أو دنيوية…

فكم من صريع للأماني والأحلام، قد ضيع عمره في متاهات وأوهام، ينتظر من مستقبله أن يأتيه بالحلول والإنجازات، دونما عمل، أو سعي، أو استغلال لكل لحظة؛ للوصول إلى الهدف المنشود..

يقول ابن الجوزي عن هؤلاء المفرطين في أوقاتهم: "يا من أيام عمره في حياته معدودة، وجسمه بعد مماته معدُوده1:

رأيتك في النقصان مذ أنت في المهد         *** تقربك الساعات عن ساعة اللحد

ستضحك سن بعد عين تعصـرت *** عليك وإن قالت بكيت من الوجد

أتطمح أن يشجى لفقدك فاقــد *** لعل سرور الفاقدين مـع الفقـد

يا من عمره يمضي بالساعة والساعة! يا كثير التفريط في قليل البضاعة! يا شديد الإسراف! يا قوي القدرة وبأس الاستطاعة! جاء منكر ونكير في أفضع الفظاعة، كأنهما إخوان في الفظاظة من لِبان الرضاعة! وأمسيت تجني ثمر هذه الزراعة، وتمنيت لو قدرت على لحظة الطاعة، وقلت: ((رب ارجعون)) ومالك كلمة مطاعة! يا متخلفاً عن أقرانه قد آن أن تلحق بالجماعة"2.

لقد نبه ابن الجوزي بكلماته هذه القلوب الغافلة والأعين الآفلة، والنفوس السافلة، يا أيتها النفوس لقد ضاعت الأوقات وشابت الرؤوس، وقربت للقصاص الفؤوس! أبعد هذا البيان والزجر من جلوس! قوموا – لا أباً لكم- لتحلقوا بالجماعة، فقد ذهب الخليل، ومات العليل، وأصبح الكثير قليل، غبنتم – والله- وضحك عليكم الشيطان، وضيعتم العمر في ما لا منفعة تعود عليكم.. فاتقوا ربكم واحفظوا وقتكم…

لقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى حفظ الوقت وكان هذا الإرشاد يأتي إما بالأمر مباشرة وإما بالوعظ وبيان عاقبة ضياع الأوقات.. فمن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) رواه الحاكم وهو حديث صحيح.3

وفي الوعظ والإرشاد يقول: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم عمل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه) رواه الترمذي وهو صحيح4، وقال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ) رواه البخاري5.

ونحن نعلم أهمية الوقت.. ولكن كم من أناس لا يدرون أين ولا كيف يقضون أوقاتهم! فتجد الكثير منهم تمر عليه ساعات الليل والنهار وهو محتار في وقته.. ولا بد أن نقدم للقراء الكرام نصائح في حفظ الوقت:

كيف يحفظ الإنسان وقته؟!

1.  الحركة الهادفة: ونقصد بها أن يكون العبد متحركاً في الأرض نافعاً للبشر بأي نفع يستطيع أن يقدمه لهم دينياً أو دنيوياً ويكون ذلك بالدعوة إلى الله، والتبشير بالخير، والتحذير من الشر وفعله.

يقول الراشد: (فعلى الداعية إلى الله أن يكون رحالة سائحاً في محلات مدينته، ومدن قطره؛ يبلغ دعوة الإسلام… انظر مثلاً كيف كانت رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم تسيح في البوادي تبلّغ الأعراب كلمة الإسلام، وتبشر به، ولم يكن ثمة انتظار ورودهم إلى المدينة، ألا ترى أن الأعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام، فلما أخبره بها وقال: (لا أزيد ولا أنقص) كيف بدأ سؤاله! بأن قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا محمد أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك!؟) رواه مسلم.. أتاهم رسول رسول الله داعياً، وكذلك الناس تؤتى، ومن انتظر أن تأتيه الناس فليس بداعية)6.

2.  المخالطة: الإنسان مدني بالطبع، هكذا خلق الإنسان يحب المجالسة والمخالطة، والقليل من ينعزل عن المجتمع.. يقول علي بن أبي طالب: (خالط المؤمن بقلبك، وخالط الفاجر بخلقك)7، والمخالطة تقتضي المنفعة للناس بحيث لا تضيع الأوقات في الكلام الفارغ الذي لا ينفع؛ كما قال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 114]، ولا يعني الحفاظ على الوقت انعزال المجتمع وتركه، بل لا بد من المخالطة التي هدفها حفظ الوقت فيما يعود على النفس والناس بالنفع.. ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم))8 .

3.    حب المساعدة وقضاء الحاجات:

وهذا من خير ما يقضي به العبد وقته؛ ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته –وأشار بأصبعيه– أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين))9.

وفي الحديث: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) رواه مسلم (2699).

4.  الاقتداء بالصحابة في حفظ الوقت: ذكر الأوزاعي عن السلف أنهم كانوا يحرصون على هذه الأمور: (لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله)10.

5.    القراءة الهادفة: والمقصود بالقراءة أن يكون لها هدف، لا لمجرد التسلي وضياع الوقت فيها.. ولا بد من مراعاة الآتي:

·   العمل بما يقرأ كي يستقر في ذهنه: ولهذا قالوا: (العلم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر)11 قال بعض السلف: (كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به).

·   القدرة على التحليل وإبداء الرأي والنقد السليم، لأن القراءة بدون ذلك تقود قارئها إلى تقبل كل ما يقرأ خيراً أو شراً.. والقراءة الهادفة قد نفذها وعمل بها السلف الصالح، فكانوا قدوة لنا في ذلك.. سئل عبد الله بن المبارك مرة: (مالك لا تجالسنا؟ فقال: أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين! وأشار بذلك إلى أنه ينظر في كتبه). والزهري تتمنى زوجته وتقول: ((والله إن هذه الكتب أشدُّ عليَّ من ثلاث ضرائر)). معنى قول زوجته: لو أن الزهري تزوج ثلاث نساء لكان أهون عليَّ من كثرة قراءته للكتب وانشغالاته بها عني، وعن مجالستي!! سبحان الله من تلك الهمم. وكان ابن تيمية الجدَّ (جد شيخ الإسلام) إذا دخل الخلاء يقول لمن معه: (اقرأ في هذا الكتاب وارفع صوتك حتى أسمع) أي حتى لا يضيع الوقت في غير فائدة، يقرأ عليه الرجل من خارج الخلاء وهو في الخلاء يسمع!!12

ويدخل في ذلك طلب العلم الشرعي.. وهذه الأمور السالفة الذكر ذكرناها ليغطي بها الإنسان أوقات فراغه إذا كان منشغلاً في أمور الدنيا؛ لأن الأشغال لا تنتهي، فلا بد أن يكون له لحظة من حياته أو لحظات يؤدي بها ما سبق، حتى لا تذهب الحياة عليه حسرات… ومن الناس من يكون متفرغاً من أمور الدنيا ومكفياً من طلب المعيشة، فرزقه يأتيه من غيره، فعليه أن يستغل الوقت فيما ينفعه – كما سبق- وأن يكون جل وقته نفع نفسه أو نفع غيره علماً وعملاً… نسأل الله التوفيق والسداد..

والله أعلم،،،


1– المقصود ب( معدودة) الأولى: من العد والعدد، وقوله: مع دوده: أي مع الدود الذي يأكله في القبر.. وهذا من باب السجع.

2– المدهش ص363-364.

3– صحيح الجامع (1077).

4 – صحيح الترغيب والترهيب (1/ 30) رقم (126).

5 – صحيح البخاري (5/2357) رقم (6049).

6– المنطلق للراشد ص119.

7– بهجة المجالس للقرطبي (2/451). ط/ الثانية.

8– رواه ابن ماجه (4032) وصححه الألباني في السلسلة رقم (939).

9 رواه الحاكم وصححه (7706)، وضعفه الألباني، انظر: ضعيف الترغيب والترهيب (2/95).

10– بهجة المجالس (3/140).

11– ذكره ابن تيمية في الفتاوى (2/13) ط2.

12– للمزيد: انظر كتاباً هاماً: (الوقت عمار أو دمار) إعداد/ جاسم المطوع.