المسجد .. معاني غائبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين .. أما بعد:
عندما يسمع كثير من المسلمين كلمة “المسجد” يتبادر إلى أذهانهم مباشرة المكان الذي نصلي فيه، ثم ننصرف إلى منازلنا، وإن كان هناك وقت استمعنا إلى الدرس المعتاد، ويوم الجمعة نلتقي لنسمع الخطيب ثم ننصرف!!
هذا هو مفهوم المسجد عند كثير من المسلمين للأسف الشديد، وهذا غير صحيح، فالمسجد أعظم مما ظنوا، وفيه من المعاني أكثر مما علموا.
فهو المحضن التربوي، وهو المؤسسة الخيرية، وهو الملتقى الأخوي، وهو القلعة لمكارم الأخلاق، وهو مركز المواهب والإبداع، وهو المشارك للأسرة في اهتماماتها فيه تهذب النفوس، وعلى عتبته تنتهي الخصومات، ومنه ينطلق النور في أرجاء الحي مغيراً ما انتشر من المنكرات، وهو العين الجارية التي تسقي أهلها حباً ووداداً. كل هذا في المسجد؟
نعم، ولكن للأسف أن حال كثيرٍ منا أصبح كما قال الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ | والماء فوق ظهورها محمول |
وكم تحتاج الأمة مثل هذه المعاني التي أهملها كثيرٌ من الناس خصوصاً هذه الأيام التي أصبح المسلمون فيها كالأيتام على مائدة اللئام، حصل الضعف والخور، وحصل التفرق والتشرذم، وساءت الأخلاق – إلا من رحم الله -، وظهر النفاق والشقاق.
من المعاني الغائبة للمسجد:
1. أن المسجد مكان للقاء الأخوي، وتقوية الحب في الله : فإن المسجد من أحسن الأماكن التي تزداد فيها الأخوة يوماً بعد يوم، كل يوم نلتقي فيه خمس مرات، إن غاب أحدنا افتقده الآخر، نتبادل البسمات، ينصح بعضنا بعضاً، مشاعرنا متفقة، فتارة نبكي لموعظة، وتارة نفرح لبشرى، نجتمع على طاعة، ونفترق على طاعة، هذه بعض مظاهر الأخوة التي تأمر بها الشريعة الإسلامية، وتحث عليها قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ1، والطاعة لله تورث المحبة فيه، والمسجد بيت الطاعة فيه يتحاب المؤمنون، ويزدادون حباً إلى حبهم، وإيماناً إلى إيمانهم.
2المسجد يُصلح بين الناس، ويجمع القلوب: إن النفوس في بيوت الله تتهذب وتتأدب، وأهل المسجد من إمام وشيخ ومصلي؛ غالباً شخصيات مقبولة عند الناس، والصلح قد حث الله عليه في كتابه الكريم حيث قال: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا2، فلو استُغلَّت طيبة النفوس التي يحملها أصحاب المساجد في الصلح فيما بينهم وبين المتخاصمين غيرهم بتشكيل لجنة تحتسب في هذا الباب؛ لحصل خيرٌ كثيرٌ.
3. المسجد يغرس الأخلاق الحسنة، ويحييها في الناس: فالمسجد ملتقى لكل الأعمار، فترى الصغير يوقر الكبير، والكبير يعطف على الصغير، هذا يغض صوته مع أنه يقرأ القرآن لكي لا يشغل المصلين، مجتنباً ما نهى عنه النبي ﷺ فيما جاء عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: ألا إن كلكم مناج ربه؛ فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة، أو قال: في الصلاة3، فإذا كان هذا بالقرآن فكيف بما هو دونه. وفي المسجد يتعلم المسلمون من بعضهم الأخلاق، فيُقتدى بالإمام، ويُقتدى بالصالحين من رواد المسجد.
4. المسجد مركزٌ لتنمية المهارات والمواهب: فمن عهد النبي ﷺ كان حسان ينشد الشعر في المسجد، وأبي بن كعب يصلي بالناس بصوته الحسن، وبلال يصدح بالأذان بما يشنف الآذان، وجابر يعلم الناس ويحدثهم، فالمسجد إذن يمكن أن يكون كذلك إذا أتيحت الفرصة للمصلين، فينمى الشعراء والأدباء والخطباء بأمسيات أدبية تقام في المسجد، تنمى مهارة الحاسوب بتزويد المسجد بما يحتاجه من البرامج والمطويات والملصقات، وتنمى مهارة العلاقات الاجتماعية عن طريق اللقاءات المستمرة، وتنمى القراءة والكتابة، ويشجع أصحاب الأصوات الجميلة …إلخ.
5. المسجد هو العين الجارية التي تزود الناس بالخشوع: فكم من صلوات ما وجدنا لذتها، وكم من خطبٍ ما زجرنا وعيدها، وكم من آية ما أبكت مدامعنا، ونريد أن نواجه الحياة! إن من المعاني المضيعة: الخشوع؛ ليس الذي يظهر على جوارحنا فقط؛ بل الذي تمتلئ به قلوبنا، الذي تشع به جوارحنا، فتكون أعمالنا آمرةً بالمعروف، ناهيةً عن المنكر قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ4، نأخذ الخشوع من التأمل في دعاء الذهاب إلى المسجد ودخوله، والخروج منه، والتأمل في الأذان، وفي الآيات، وفي أذكار الصلاة، وهذه من المعاني المهمة التي لا بد من الانتباه لها.
6. المسجد مؤسسة خيرية ترعى الفقراء، وتقضي حوائجهم: كما في صحيح مسلم أن النبي ﷺ لما أتاه قوم من مضر أمر الصحابة أن يجمعوا لهم التبرعات فجمعوا، وكان خيراً كثيراً، وهكذا فإن المسجد يجتمع فيه الفقير والغني، فيؤلف بينهما المسجد، فيعطي لهذا من هذا، ويتفقد المسجد حاجات جيرانه فينظر المرضى، والأيتام، والأرامل.
7. المسجد محضنٌ تربوي: ألا ننظر كيف كان النبي ﷺ يتفقد أصحابه في صلاة الجماعة فعن أبي بن كعب قال: صلى بنا رسول الله ﷺ يوماً الصبح فقال: أشاهد فلان، قالوا: لا، قال: أشاهد فلان، قالوا: لا، قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين… إلخ5، بل كان ﷺ يسأل أصحابه حتى عن الرؤيا؛ فعن سمرة بن جندب قال: كان النبي ﷺ إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا6، وهكذا أهل المسجد الواحد يسأل بعضهم عن بعض؛ وبخاصة الإمام يتابع المأمومين، ويسأل عن سبب الغياب، فينصح المقصر، وينبه الغافل، ويزور المريض، ويعزي أهل الميت .. وغيرها الكثير من المعاني.
نكتفي بما ذكرنا، والله أعلم.
1 سورة الحجرات: (من الآية: 10).
2 سورة النساء: (آية: 114).
3 سنن أبي داود (1332)، وصححه الألباني، انظر صحيح أبي داود (1/ 247).
4 سورة العنكبوت (آية: 45).
5 رواه أحمد (10017)، وأبو داود (554)، والنسائي (843)، وابن خزيمة (1476)، وابن حبان (2056) في صحيحيهما، والحاكم (904)، قال الألباني: حسن لغيره، انظر صحيح الترغيب والترهيب (1 /98).
6 رواه البخاري برقم (1320).