بعض ما يجب على الحاج أن يفعله

بعض ما يجب على الحاج أن يفعله؟

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

يقول الله – سبحانه وتعالى – : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ(197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ(198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(199)} سورة البقرة.

سبب نزول الآيات:

عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: كان أهل اليمن يَحُجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فأنزل الله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}1. وعن ابن عباس أيضاً قال: كانت عكاظ ومَجَنَّة، وذو المجاز أسواق الجاهلية، فتأثَّموا أن يتجروا في المواسم، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج. رواه البخاري.

وعنه – رضي الله عنه – قال: كانوا يَتَّقون البيوع والتجارة في الموسم، والحج، يقولون: أيام ذكر، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ}2.

وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسَمّون الحُمْس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن يَأتَي عرفات، ثم يقف بها ثم يُفيض منها، فذلك قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}3 .

شرح الآيات:

يخبر تعالى أن {الْحَجَّ} واقع في {أشهر معلومات} عند المخاطبين، مشهورات، بحيث لا تحتاج إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره، وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس.

وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم، التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم.

والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالباً.

{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} أي: أحرم به؛ لأن الشروع فيه يصيره فرضاً، ولو كان نفلاً.

واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، قال السعدي في تفسيره: لو قيل: إن فيها دلالة لقول الجمهور، بصحة الإحرام بالحج قبل أشهره لكان قريباً، فإن قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها، و إلا لم يقيده.

وقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج، وخصوصا الواقع في أشهره، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه، من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصا عند النساء بحضرتهن.

والفسوق وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام.

والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة.

والمقصود من الحج، الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبروراً، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج.

واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر، ولهذا قال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} أتى بـ "من" لتنصيص على العموم، فكل خير وقربة وعبادة داخل في ذلك، أي: فإن الله به عليم، وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير، وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة، فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها، من صلاة، وصيام، وصدقة، وطواف، وإحسان قولي وفعلي.

ثم أمر – تعالى – بالتزود لهذا السفر المبارك، فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين، والكف عن أموالهم، سؤالا واستشرافا، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين، وزيادة قربة لرب العالمين، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاعا.

وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه، فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة، وأجل نعيم دائم أبدا، ومن ترك هذا الزاد فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين. فهذا مدح للتقوى.

ثم أمر بها أولي الألباب فقال: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ} أي: يا أهل العقول الرزينة، اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول، وتركها دليل على الجهل، وفساد الرأي.

قوله – تعالى – :{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} (198) سورة البقرة.

لما أمر تعالى بالتقوى، أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره، ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج، وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله، لا منسوبا إلى حذق العبد، والوقوف مع السبب، ونسيان المسبب، فإن هذا هو الحرج بعينه.

وفي قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} دلالة على أمور:

أحدها: الوقوف بعرفة، وأنه كان معروفاً أنه ركن من أركان الحج، فالإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف.

الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام، وهو المزدلفة، وذلك أيضا معروف، يكون ليلة النحر بائتا بها، وبعد صلاة الفجر يقف في المزدلفة داعياً، حتى يسفر جداً، ويدخل في ذكر الله عنده، إيقاع الفرائض والنوافل فيه.

الثالث: أن الوقوف بمزدلفة متأخر عن الوقوف بعرفة، كما تدل عليه الفاء والترتيب.

الرابع، والخامس: أن عرفات ومزدلفة كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها وإظهارها.

السادس: أن مزدلفة في الحرم، كما قيده بالحرام.

السابع: أن عرفة في الحل، كما هو مفهوم التقييد بـ "مزدلفة".

وقوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} أي: اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم، التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان.

وقوله – تعالى – : {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي: ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس، من لدن إبراهيم – عليه السلام – إلى الآن.

والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم، وهو رمي الجمار، وذبح الهدايا، والطواف، والسعي، والمبيت بـ "منى" ليالي التشريق وتكميل باقي المناسك.

ولما كانت هذه الإفاضة يقصد بها ما ذكر، والمذكورات آخر المناسك، أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد، في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة.

وهكذا ينبغي للعبد، كلما فرغ من عبادة أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة، ومنَّ بها على ربه! وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت ورد الفعل، كما أن الأول حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر4.

بعض فوائد الآيات:

1. أنَّ الحج له وقت معين كما أن للصلاة وقتاً معيناً، وقت الحج هي الأشهر المعلومة لدى الناس والتي هي شوال وذو العقدة، وعشر من ذي الحجة؛ كما قال ابن عمر: هي شوال، وذو القَعْدة، وعشر من ذي الحجة5. وهذا قول الجمهور. وذهب البعض إلى أن أشهر الحج هي شوال وذو العقدة وذو الحجة كاملاً.

2. أن من تلبس بالحج أو العمرة وجب عليه إتمامه، وصار فرضاً عليه؛ لقوله: {فمن فرض فيهن الحج…}؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} البقرة: 196 ؛ فلم يبح الله – تعالى – الخروج من النسك إلا بالإحصار.

3.   أن من تلبس بالدخول في الحج فإنه يحرم عليه أن يجامع أهله، بل يحرم عليه مقدمات ذلك؛ لقوله: {فلا رفث}.

4.   أن الفسق محرم في كل زمان ومكان، ولكنه في الأزمنة والأمكنة الفاضلة أشد تحريماً.

5.   تحريم الجدال الذي ليس له ثمرة مرجوة، وهو في حال الإحرام أشد تحريماً.

6. أن على الإنسان أن يكثر من فعل الخير، وأن يغتنم الأوقات والأماكن الفاضلة بالازدياد من فعل الطاعات والحسنات، وأن يبتعد عن المعاصي والسيئات.

7. أن الله – سبحانه – يعلم كلما يفعله العبد من خير أو شر، وبالتالي فعليه أن يراقب الله، وأن يحذر من يراه الله وهو ينتهك ما حرم الله عليه.

8. أن على الإنسان أن يتوكل الله، ومن تمام التوكل على الله أن يأخذ بالأسباب الشرعية والحسية التي لا تخالف ما شرعه الله، ومن ذلك أن يأخذ الحاج ما يكفيه من مؤونة السفر للحج ذهاباً وإياباً حتى لا يتكفف الناس.

9.   أن زاد التقوى خير زاد، وأن لباس التقوى خير لباس؛ لقوله تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير} الأعراف: 26.

10.        أن من اتقى الله وراقبه وامتثل أوامره واجتنب نواهيه، فإنه أعقل الناس وأرشدهم.

11.   إباحة الاتجار أثناء الحج بالبيع والشراء ما لم يكن يبيع أو يشتري بمحرم فإنه يحرم عليه مطلقاً في كل زمان ومكان.

12.   مشروعية الوقوف بعرفة؛ بل إن ذلك ركن من أركان الحج؛ وهو أهم أركان الحج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)6.

13.   أنه يشترط للوقوف بمزدلفة أن يكون بعد الوقوف بعرفة؛ لقوله: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام}؛ فلو أن أحداً مر بمزدلفة في الليل، ووقف بها يدعو، ثم وقف بعرفة يدعو بها، ثم رجع إلى منى لم يجزئه الوقوف بمزدلفة؛ لأنه في غير محله الآن؛ لأن الله ذكره بعد الوقوف بعرفة.

14.   أنه يجب على الإنسان أن يذكر الله – تعالى – لما أنعم عليه به من الهداية؛ لقوله: {واذكروه كما هداكم}؛ فإن ذلك من شكر الله، ومن شكر الله فإن الله قد وعده بالمزيد، فقال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} سورة إبراهيم (7). فمن شكر على أن هداه ومنَّ عليه بالهداية فإن الله سيزيده هداية وفضلاً؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} سورة محمد (17). {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} سورة مريم (76).

15.   الواجب على الإنسان أن يتمسك بالكتاب والسنة، وأن يعبد الله بما شرع، ومن ذلك أن يذكره بما شرع كماً وكيفاً؛ لقوله: {واذكروه كما هداكم}.

16.   مشروعية تذكير الإنسان بحاله قبل كماله؛ ليعرف بذلك قدر نعمة الله عليه؛ لقوله: {وإن كنتم من قبله لمن الضالين}؛ ومن هذا قول النبي – صلى الله عليه وسلم – للأنصار: (ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟)7. ومنه قول الملَك للأبرص والأقرع في الحديث الطويل المشهور: (ألم تكن أبرصَ يقذرك الناس فقيراً فأغناك الله)8. فإن تذكيره بذلك أدوم لنعمة الله عليه، وأن لا يغتر بما أنعم الله عليه، فيبطر ويتكبر، ويزدري من كان دونه في المرتبة؛ قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ} سورة النساء(94).

17.   أنه يشرع للإنسان أن يستغفر الله – عزّ وجلّ – في آخر العبادات؛ لقوله: {واستغفروا الله}؛ وذلك إن كان محسناً في أداء تلك العبادة ومتقناً لها كان الاستغفار كالخاتم لها، وإن كان مقصراً فيها أو مخلاً في بعضها كان الاستغفار توبة من التقصير، وطلباً للعفو والمغفرة من الله سبحانه.

والله أعلم.


1 أخرجه البخاري وأبو داود.

2 رواه أبو داود.

3 رواه البخاري.

4 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن السعدي(91- 92). المحقق : عبد الرحمن بن معلا اللويحق. الناشر : مؤسسة الرسالة. الطبعة : الأولى (1420هـ -2000 م).

5 رواه البخاري.

6  رواه ابوداوود في كتاب المناسك باب من لم يدرك عرفة برقم 1949 (1/599)، والنسائي في كتاب مناسك الحج باب فرض الوقوف بعرفة برقم 3016 ( 5/256)، وقال الألباني صحيح

7 أخرجه البخاري ومسلم .

8 أخرجه البخاري ومسلم.