المسجد الأقصى وبيت القدس

المسجد الأقصى وبيت القدس

 

الحمد لله القائل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} سورة الإسراء(1)، والصلاة والسلام رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد خص الله بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بخصائص دون غيرها، وفضلها بفضائل على غيرها، ومن هذه الأمكنة التي فضلها الله على سائر الأمكنة المسجد الأقصى المبارك وبيت المقدس، فقد كثرت فضائلهما حتى ألف في فضلهما مؤلفات كثيرة، وهذه الفضائل التي سنسوقها في فضل تلك البقعة تدل دلالة واضحة على أهميتها، وتُوجب على المسلمين في شتى بقاع العالم المحافظة عليها، وعمارتها وصيانتها، وإنقاذها من أيدي أعدائها، حتى تخفق عليها راية الإسلام، خاصة في هذه الأيام التي يجثم العدو على صدرها، وينتهك حرماتها، ويعمل ليل نهار على طمس هويتها ومعالمها بالحفريات والتدمير، وبناء المستوطنات، وتزييف الحقائق والتاريخ.

إن من فضائل بيت المقدس ما يأتي:

أولاً: أن الله – سبحانه – وصف بيت المقدس ومسجده في كثير من آياته بالبركة؛ حيث قال – سبحانه وتعالى -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} سورة الإسراء(1)، وقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} سورة الأنبياء(71)، وهذا حكاية عن الخليل إبراهيم – عليه السلام – في هجرته الأولى إلى بيت المقدس وبلاد الشام.

وقال – تعالى-: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} سورة الأعراف(137)، وفي قصة سليمان – عليه السلام – يقول – سبحانه وتعالى -: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} سورة الأنبياء(81)، وقال – تعالى – على لسان موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} سورة المائدة(21).

كما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد دعا لها بالبركة؛ فعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: (اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا) قال: قالوا وفي نجدنا؟ قال: قال: (اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا) قال: قالوا وفي نجدنا؟ قال: قال (هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان)1.

ثانياً: أن أرضها أرض خصوبة، وماءها ماء معين جاري كما قال – تعالى-: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} سورة المؤمنون(50)، قال الضحاك وقتادة: "وهو بيت المقدس"، قال ابن كثير: "وهو الأظهر"2.

ثالثاً: أنها أرض المنادي من الملائكة نداء الصيحة لاجتماع الخلائق يوم القيامة؛ كما قال – سبحانه وتعالى -: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} سورة ق(41)، "قال قتادة وغيره: "كنا نحدَّث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة وهي أوسط الأرض"3.

قال ابن تيمية – رحمه الله -: "ودلّت الدلائل المذكورة على أن (ملك النبوة) بالشام، والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يُحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام، كما أن مكة أفضل من بيت المقدس، فأول الأمة خيرٌ من آخرها، وكما أن في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام، كما أسري بالنبي –

صلى الله عليه وسلم – من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى"4.

رابعاً: أنها القبلة التي كان يتوجه إليها الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون قبل تحويلها إلى الكعبة المشرفة، حيث صلَّى النبي – صلى الله عليه وسلم – نحو بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ثم حُوِّلت، وقد أشار القرآن إلى ذلك فقال رب العزة والجلال: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} سورة البقرة (143).

خامساً: أن الله وصف المانعين لإقامة الشعائر فيه بأنهم أظلم البشر، وتوعدهم بالخوف عند دخوله، وبحلول الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الأخرى؛ كما في قوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} سورة البقرة(114) ذكر بعض المفسرين أنها نزلت في "بختنصّر" لأنه كان خرّب بيت المقدس، وروي عن ابن عباس وعن قتادة قال: "أولئك أعداء الله النصارى حملهم إبغاض اليهود على أن أعانوا "بختنصر" البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس"، ومعلوم أن هذا التخريب بقي إلى زمان عمر – رضي الله عنه -، ولكن الآن يعمّ حكمها كل مسجد مُنِعَ الناس من إقامة شعائر الله فيه سواء بالتخريب الحسي كما فعل "بختنصر" بمعبد بيت المقدس، أو بصدّ الناسكين عنه كما فعلت قريش مع النبي – صلى الله عليه وسلم –5.

سادساً: أن الله لم يجز شد الرحال وقصد السفر للعبادة إلا إلى ثلاثة بقاع ومنها المسجد الأقصى، فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (لا تُشَدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)6، فالشارع ينهي عن السفر إلى أي مكان مسجداً كان أو غيره لقصد العبادة ما عدا المساجد الثلاثة المستثناة في أسلوب الحصر، ومما يدل على تعميم كل الأماكن إلا المساجد المذكورة ما رواه الإمام مالك بسنده عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: لقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري – رضي الله عنه – فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور، فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجتَ، سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيليا، أو بيت المقدس)7، قال ابن تيمية – رحمه الله -: "وكذلك ينهى عن السفر إلى الطور المذكور في القرآن فمن باب أولى أن ينهى عن السفر إلى غيرهما من الأمكنة"8.

سابعاً: أن المسجد الأقصى هو ثاني مسجد بني في الأرض، لما في حديث الصحيحين عن أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه – قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: (المسجد الحرام)، قال: قلت ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى)، قلت: كم كان بينهما؟ قال: (أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصل فإن الفضل فيه).

ثامناً: أن إتيان المسجد الأقصى بقصد الصلاة فيه يكفر الذنوب، ويحط الخطايا؛ فعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وألاّ يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلاّ الصلاة فيه إلاّ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة)9، ولأجل هذا الحديث كان ابن عمر – رضي الله عنهما – يأتي من الحجاز فيدخل فيصلي فيه، ثم يخرج ولا يشرب فيه ماء مبالغةً منه لتمحيص نية الصلاة دون غيرها لتصيبه دعوة سليمان – عليه السلام -.

ومما يجب أن يعلم أنه ليس في بيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى، لكن إذا زار قبور الموتى، وسلم عليهم، وترحم عليهم كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلم أصحابه فحسن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "والعبادات المشروعة في المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة في مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – وغيره من سائر المساجد إلاّ المسجد الحرام، فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد الطواف بالكعبة، واستلام الركنين اليمانيين، وتقبيل الحجر الأسود، وأما مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – والمسجد الأقصى وسائر المساجد فليس فيها ما يطاف به، ولا فيها ما يتمسح به، ولا ما يقبّل، فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، ولا بصخرة بيت المقدس، ولا بغير هؤلاء، بل ليس في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة، ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شرٌ ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة، فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلةً يصلى إليها فهو كافرٌ مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل، مع أنها كانت قبلة لكن نُسخ ذلك، فكيف بمن يتخذها مكاناً يطاف به كما يطاف بالكعبة؟!، فهذه الأمور التي يشبه بها بيت المقدس في الوقوف والطواف، والذبح والحلق؛ من البدع والضلالات"10.

تاسعاً: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مدح مصلاه، وبين فضل ثواب الصلاة فيه؛ فعن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (صلاةٌ في مسجدي أفضل من أربع صلواتٍ فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعاً)، قال: أو قال: (خيرٌ له من الدنيا وما فيها)11، وهذا حديث شريف مشتمل على فوائد جمة منها: بشارة النبي – صلى الله عليه وسلم – بفتح بيت المقدس لأن هذا كان قبل الفتح العمري ببضع عشرة سنة، ومن مؤيدات هذه البشارة حديث عوف بن مالك – رضي الله عنه – الذي أخرجه البخاري أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس…) الحديث.

الثانية: أن صلاةً في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاةً فيما سواه عدا مسجدي مكة والمدينة، قال العلامة ابن القيم – رحمه الله -: "وقد روي في بيت المقدس التفضيل بخمسمائة وهو أشبه"12.

عاشراً: ثبات أهل الإيمان فيه عند حلول الفتن؛ لحديث أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (بينا أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري؛ فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حيث تقع الفتن بالشام)13.

الحادي عشر: أنها حاضرة الخلافة الإسلامية في آخر الزمان؛ فعن أبي حوالة الأزدي – رضي الله عنه – قال: وضع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: (يا ابن حوالة: إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك)14.

الثاني عشر: ومن فضائلها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حث أمته ونصحها بسكنى الشام، والمسجد الأقصى وبيت المقدس جزء منها؛ فعبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (ستخرج نار من حضرموت أو من نحو حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس) قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: (عليكم بالشام)15.

وعن عبد الله بن حوالة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (إنكم ستجندون أجناداً: جنداً بالشام، وجنداً بالعراق، وجنداً باليمن) قال: قلت: يا رسول الله خر لي؟ قال: (عليك بالشام فمن أبى فليلحق بيمنه، وليسق من غدره، فإن الله تكفل لي بالشام وأهله)16، وغير ذلك من فضائل المسجد الأقصى وبيت المقدس.

نسأل الله أن يفك أسره، وأن يعجل بفكاكه من أيدي اليهود وأعوانهم، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المجاهدين في سبيلك في كل مكان، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.


1 رواه البخاري، وهو في صورة الموقوف على ابن عمر رضي الله عنه وهو في الحكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن مثله لا يقال بالرأي، وقد جاء مرفوعا في كتاب الفتن من صحيح البخاري، وهو كذلك عند أحمد مرفوعاً..

2 تفسير ابن كثير(3/330).

3 تفسير الطبري(11/438). والدر المنثور(7/612).

4 مجموع الفتاوى(27/44).

5  يراجع: تفسير الطبري(1/545). وتفسير ابن كثير(1/216). وتفسير القرطبي(2/74).

6 رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ مسلم.

7 رواه أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، وأبو يعلى في مسنده، وقال حسين سليم أسد: "إسناده صحيح".

8 يراجع: مجموع الفتاوى(27/9).

9 رواه ابن ماجه، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(1156).

10  يراجع: مجموع الفتاوى(27/10).

11 رواه الحاكم في المستدرك، وقال: "وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وصححه الذهبي تلخيص الحبير.

12 المنار المنيف(93).

13 رواه أحمد، وقال الألباني: "صحيح"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(3094).

14 رواه أبو داود، وأحمد، والحاكم، وقال الألباني: "صحيح"؛ كما في صحيح أبي داود، رقم(2210).

15 رواه أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي :"حديث حسن صحيح"، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(3096).

16 رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح" كما في تعليقه على صحيح ابن حبان، رقم(7306).