فضل المدينة النبوية وتاريخها قبل النبوة

فضل المدينة النبوية وتاريخها قبل النبوة

 

الحمد لله الذي جمع القلوب على توحيده، ونور قلوب المؤمنين بذكره وشكره وتمجيده، وصلى الله على أعظم أنبيائه وأشرف عبيده، محمد رسول الله وعلى آله وصحبه والتابعين في قديم الزمان وجديده.. وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:

فلقد أرسل الله رسوله محمداً إلى الناس كافة ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية والشرك إلى التوحيد، ومن عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الواحد الديان )يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً( الأحزاب: 45-46. فامتثل الرسول  أمر ربه -سبحانه-، وقام ودعا إلى الله بكل ما يستطيع، ودخل الناس في دين الله؛ لكن رؤوس قريش وسادتها وزعماءها حاولوا إطفاء هذا النور، وحاربوا الرسول  وأتباعه بشتى أنواع المحاربة من تعذيب وإيذاء وقتل وحبس واستهزاء وسخرية… الخ، فما كان من الرسول إلا أن نصح أصحابه بالفرار من مكة إلى الحبشة فراراً بدينهم وعقيدتهم، واشتد الإيذاء له من كفار قريش حتى وصل بهم الأمر إلى أن أجمعوا على قتله.

فأمره ربه أن يهاجر من مكة إلى المدينة النبوية (طيبة الطيبة)، بعد أن هيأ -عليه الصلاة والسلام- بيعة مع من أسلم منهم.. والدعوة إلى الله تحتاج إلى نوع من الاطمئنان، وجو هادئ حتى يستطيع الداعي أن يعلم أتباعه ويربيهم، ويغرس فيهم الإيمان بالله، فهاجر من مكة إلى المدينة وقريش كلها تطلبه، ولكن الله -تعالى- نجاه منهم ومن كيدهم وشرهم، وما هي إلا أيام وإذا به يصل إلى المدينة واستقبله أهلها بالفرح والبشاشة وبدأ يرسي قواعد الدولة الإسلاميـة، وبدأ يؤسس المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة.. فكانت تلك المدينة الطيبة بنبيها وأصحابه الكرام منطلقاً للإسلام الذي ضرب بأطنابه مشارق الأرض ومغاربها.. فيا ترى ما فضائل تلك المدينة التي أنبتت الرجال نباتاً حسناً بأمر ربها؟.. نذكر فضائل المدينة المنورة في هذا الموضوع -إن شاء الله-.

روى البخاري ومسلم وأحمد ومالك: عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-قال: (أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب، وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحـديد).

قال ابن حجر: قوله (أمرت بقرية) أي أمرني ربي بالهجرة إليها وأسكنها، وقوله (تأكل القرى) أي: تغلبهـم. ومعناه: أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكاد تكون عدماً. وقوله: (يقولون: يثرب، كراهية تسمية المدينة بيثرب، وقالوا: ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين. وروى أحمد من حديث البراء بن عازب رفعه أن رسول الله  نهى أن يقال للمدينة يثرب.

قوله : تنفي الناس، أي الشرار منهم. قال عياض: وكان هذا مختص بزمنـه؛ لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه بها إلا من ثبت إيمانه. وقال النووي: ليس هذا بظاهر؛ لأن عند مسلم: (لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد) وهذا -والله أعلم- من الدجـال .انتهى1.

ومن فضائل المدينـة أن الرسول حرمها كما حرم الخليل إبراهيم مكة المكرمـة وحدد حرمها فعن أنس عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: (المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث، من أحدث حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين2) وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم-قال: (حرم ما بين لابتي المدينة على لساني3).

ولقد سماها النبي طابة كما في حـديث أبي حميد قال: أقبلنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم- من تبوك حتى أشرفنا على المدينة فقال 🙁هذه طابة4) قال ابن حجر –رحمه الله-: طابة أي من أسمائها إذ ليس في الحديث أنها لا تسمى بغير ذلك، والطاب والطيب لغتان بمعنى، واشتقاقهما من الشيء الطيب، وقيل لطهارة تربتها، وقيل لطيب ساكنيها، وقيل من طيب العيش بها، وقال بعض أهل العلم: وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية5. ، والإيمان يأرز إلى المدينة فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: (إن الإيمان ليأرِز إلى المدينة كما تأرِز الحَيَّة إلى جُحره6).

قال الحافظ في الفتح: أي أنها كما تنتشر من جحرها في طلب ما تعيش به فإذا راعها شيء رجعت إلى جحرها كذلك الإيمان انتشر في المدينة، وكل مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة لمحبته في النبي – صلى الله عليه وسلم- فيشمل ذلك جميع الأزمنة؛ لأنه في زمن النبي للتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم للاقتداء بهديهم، ومن بعد ذلك لزيارة قبره والصلاة في مسجده ومشاهدة آثاره وآثار أصحابه7.

ولقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم- أن من أراد الكيد لأهل المدينة فإنه يهلك فعن سعد قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يكيد أهل المدينة أحد إلا أنماع كما ينماع الملح في الماء) قال الحافظ: قوله (باب إثم من كاد أهل المدينة) أي أراد بأهلها سواءً، والكيد المكر والحيلة في المساءة وقوله (أنماع)  أي ذاب، وفي صحيح مسلم: (ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء) والمدينة النبوية المباركة معصومة من الدجال والطاغوت ببركته – صلى الله عليه وسلم- فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: (على أنقاب المدينة ملائكة يحرسونها لا يدخلها الطاغوت، ولا الدجـال) رواه الشيخان8.  وعن أنس قال: قال رسول الله: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجـال إلا مكة والمدينة، ليس من نقب من أنقابها إلا عليه ملائكة صافين يحرسونها، فينزل السبخة، ثم ترجف المدينـة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق) متفق عليه.

وعن أبي بكرة – رضي الله عنه -قال: قال رسول الله: (لا يدخل المدينـة رعب المسيح الدجـال، لها يومئذ سبعـة أبواب على كل باب ملكان) رواه البخاري. وعن تميم الداري في حديثه الطويل في رؤية الدجـال في اليقظة، أن الدجـال قال له: يوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، هما محرمتان عليّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتاً يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها، قال رسول الله: (هذه طيبة، هذه طيبة)يعني: المدينة. رواه مسلم.

والأحـاديث أكثر من أن تحصر في فضائل مدينة الرسول وقد ذكر الإمـام محمد بن يوسف الصالحي الشامي في كتابه النفيس فضائل المدينة المنـورة ما يربو على مائة من خصائص المدينة المنورة فليرجع إليه.

وبعد أن ذكرنا نبذة يسيرة عن فضائل المدينة لا بد لنا من معرفة تاريخ المدينة قبل مجيء النبي – صلى الله عليه وسلم- إليها .

قال ابن النجـار في كتابه (الدرة الثمينـة في تاريخ المدينـة): قال أهل السير: كان أول من نزل المدينـة بعد غرق قوم نوح قوم يقال لهـم صعل وفالج فغزاهم داود النبي -عليه السلام-  فأخذ منهم مائة ألف عذراء، قال: وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا، فقبورهم هذه التي في السهل والجبل. قالوا: وكانت العماليق قد انتشروا في البلاد فسكنوا مكـة والمدينـة والحجـاز كله، وعتوا عتواً كبيراً، فبعث إليهـم موسى -على نبينا وعليه السلام- جنداً من بني إسرائيل فقتلوهم بالحجاز وأفنوهم. قال: وإنما كان سكن اليهود بلاد الحجاز أن موسى لما أظهره الله على فرعون وأهلكه وجنوده وطن الشام وأهلك من بها وبعث بعثاً من اليهود إلى الحجاز وأمرهم ألا يستبقوا من العماليق أحداً بلغ الحلم فقدموا عليهم فقتلوهم وقتلوا ملكهم…) وأصابوا أبناً له شاب من أحسن الناس فضنوا به على القتل وقالوا: نستحييه حتى نقدم به على موسى فيرى فيه رأيه، فأقبلوا وهو معهم وقبض الله موسى قبل قدومهم. فلما سمع الناس بقدومهم تلقوهم فسألوهم عن أمرهم فأخبروهم بفتح الله عليهم، وقالوا: لم نستبق منهم أحداً إلا هذا الفتى، فإننا لم نر شاباً أحسن منه فاستبقيناه حتى نقدم به على موسى فيرى فيه رأيه، فقالت لهم بنو إسرائيل: إن هذه المعصية لمخالفتكم نبيكم، لا والله لا تدخلوا علينا بلادنا، فحالوا بينهم وبين الشام. فقال الجيش: ما بلد إذا منعتم بلدكم خير من البلد الذي خرجتم منه. قال: وكانت الحجاز أكثر بلاد الله شجراً وأطهره ماءً.

قالوا: وكان هذا أول سكنى اليهود الحجاز بعد العماليق. وهم يجدون في التوراة أن نبياً يهاجر من العرب إلى بلد فيه نخل بين حرتين فأقبلوا من الشام يطلبون صفة البلد، فنزل طائفة تيماء وتوطنوا نخلاً، ومضى طائفة فلما رأوا خيبر ظنوا أنها البلدة التي يهاجر إليها. فأقام بعضهم بها ومضى أكثرهم، فلما رأوا يثرب سبخة وحرة ونخلاً قالوا: هذا البلد الذي يكون له مهاجر النبي إليها فنزلوه. ونزل جمهورهم مكان يقال له يثرب مجتمع السيول. وخرجت قريظة وإخوانهم بنو هذل وعمرو فنزلوا بالعلية على مهروز.

قال عبد العزيز بن عمران: وقد نزل المدينة قبل الأوس والخزرج أحياء العرب منهم أهل التهمة تفرقوا جانب بلقيز إلى المدينة فأبرت الآبار والمزارع. وقالوا: وكان بالمدينـة قرى وأسواق من يهود بني إسرائيل، وكان قد نزلها عليهم أحياء من العرب فكانوا معهم وابتنوا الآطام والمنازل قبل نزول الأوس والخزرج. وهم بنو أنيف حي من بلى، وبنو مريد حين من بلى وبنو معاوية بن الحارث، وبنو الجذما حي من اليمن.

فلما نزل اليهود العالية بها الظاهرة عليها حتى كان من سيل العرم ما كان وقص الله في كتابه9.

فلما غضب الله على أهل سبأ عندما قالوا: )ربنا باعد بين أسفارنا(سبأ19. وأذن في هلاكهم، دخل عمرو بن عامر فنظر جرذاً تنقل أولادها من بطن الوادي إلى أعلى الجبل فقال: ما نقلت هذه أولادها من هاهنا إلا وقد حضر أهل هذه البلاد عذاب، فخرقت ذلك العرم فنقبت نقباً، فسال الماء من ذلك النقب، وفي رواية أنه قال: أي قوم إن العذاب قد أظلكم، وزوال أمركم قد دنا فمن أراد منكم داراً جديداً … إلى أن قال: ومن أراد منكم الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، المقيمات في الضحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فأطاعه قومه فخرج منهم إلى عمان، وخرج بعضهم إلى بصرى، وخرجت الأوس والخزرج وبنو كعب بن عمرو إلى يثرب، فلما كانوا ببطن مر قال بنو كعب: هذا مكان صالح لا نبغي به بديلاً، فلذلك سموا خزاعة لأنهم انخزعوا عن أصحابهم، وأقبلت الأوس والخزرج حتى نزلوا بيثرب10. ولما قدمت الأوس والخزرج المدينة تفرقوا في عاليتها وسافلتها، ومنهم من نزل مع بني إسرائيل في قراهم، ومنهم من نزل وحده لا مع بني إسرائيل ولا مع العرب الذين كانوا تألفوا بني إسرائيل، وكانت الثروة في بني إسرائيل ولهـم القرى وعمروا بها الآطام. فمكثت الأوس والخزرج ما شاء الله، ثم سألوا اليهود في أن يعقدوا بينهم جواراً وحلفاً يأمن بعضهم بعضاً. ويمتنعون به ممن سواهم، فتحالفوا وتعاقدوا فلم يزالوا كذلك زماناً طويلاً، وأمدت الأوس والخزرج (أي كثر عددهم) وصار لهـم مال وعـدد، فخافت قريظـة والنضير أن يغلبوهم على دورهم، فتنمروا لهـم حتى قطعوا الحلف فأقاموا خائفين أن تجليهم اليهود، حتى نجم -أي ظهر- منهم مالك بن العجلان وسيده الحيان الأوس والخزرج، وكان ملك اليهود الفطيون شرط ألا تدخل امرأة على زوجها حتى تدخل عليه، فلما سكن الأوس والخزرج المدينة أراد أن يسير فيهم بذلك. فتزوجت أخت مالك بن العجلان رجلاً من بني سالم، فأرسل الفطيون رسولاً في ذلك، وكان مالك غائباً، فخرجت أخته في طلبه، فمرت به في قوم، فنادته فقال: لقد جئت بسبة، تناديني ولا تستحي فقالت: الذي يراد بي أكبر، فأخبرته، فقال: أكفيك ذلك فقالت: وكيف ؟ فقال: أتزين بزي النساء وأدخل معك عليه بالسيف فأقتله ففعل. ثم خرج حتى قدم الشام على أبي جبيلة، وكان نزلها حين نزلوا هم بالمدينة، فجيش جيشاً عظيماً، وأقبل كأنه يريد اليمن، واختفى معهم مالك بن العجلان، فنزل بذي حُرُض، فأرسل إلى الأوس والخزرج فوصلهم، ثم أرسل إلى بني إسرائيل: من أراد حباء الملك أي عطاياه، فليخرج إليه، مخافة أن يتحضروا فلا يقدر عليهم، فخرج إليه أشرافهم فأمر لهم بطعام حتى اجتمعوا فقتلهم فصار الأوس والخزرج أعز أهل المدينـة11.

وتفرقت الأوس والخزرج كما ذكرنا ذلك في عالية المدينة وسافلتها وبعضهم جاء إلى عفا من الأرض لا ساكن فيه فنزله. ومنهم من لجأ إلى قرية من قراها واتخذوا الأموال والأحكام فكان ما ابتنوا من الآطام مائة وسبعة وعشرين أطماً، وأقاموا كلمتهم وأمرهم مجتمع. ثم دخلت بينهم حروب عظام وكانت لهـم أيام ومواطن وأشعار12.. ولعل وراء ذلك اليهود. فلم تزل الحروب بينهم إلى أن بعث الله نبيه – صلى الله عليه وسلم- وأكرمهم باتباعه.

والحمـد لله رب العالميــن،،


1 – فتح الباري 4/104-105.

2 – البخاري مع الفتح 4/97، برقم 1867.

3 – البخاري برقم 1869.

4 – البخاري رقم 1880، ومسلم برقم 1380.

5 – فتح الباري 4/106 .

6 – البخاري برقم 1876.

7 – فتح الباري 4/112.

8 – البخاري برقم 1880 ،ومسلم برقم 1380.

9 – انظر الدرر الثمينة 35-39.

10 – ذكره الصالحي في فضائل المدينة وعزاه  المحقق إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمـة.

11 – وفاء الوفاء للشمهوري 1/178.

12 – الدرة الثمينة في تاريخ المدينة 42.