تعظيم حرمات الله

تعظيم حرمات الله

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وبين لنا الحلال والحرام، نحمده حمداً كثيراً على الدوام، ونشكره على التيسير والإنعام، ونصلي ونسلم على البشير النذير، والسراج المنير، وخير داع إلى سبيل ربه العلي القدير، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:

في هذا الدرس نأخذ آيتين من كتاب الله تعالى تبينان فضيلة تعظيم حرمات الله وضرورة ذلك، وهما الآيتان اللتان ذُكرتا في سورة الحج وهما قوله تعالى :{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } (30-31) سورة الحـج.

قوله تعالى: ( ذلك) الإشارة بهذا إلى ما تقدم من مناسك الحج: الطواف، والوفاء بالنذور عند الكعبة وغير ذلك، والمعنى: هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك من التفث(1)، والوفاء بالنذور، والطواف بالبيت العتيق هو الفرض الواجب عليكم يا أيها الناس في حجكم.

وقوله: ( وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ) أي ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيماً في نفسه ( فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ) أي فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما أنه على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات. ذكر معنى ذلك ابن كثير -رحمه الله-.

وقد قال مجاهد بن جبر المكي المفسر في قوله تعالى : (حُرُمَاتِ اللَّهِ) قال: الحرمة: مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها. وقال ابن زيد – من المفسرين-: (الحرمات: المشعر الحرام، والبيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، هؤلاء الحرمات).

فتبين بهذا أن مشاعر الحج من الحرمات التي أمر الله بتعظيمها، وكذلك حرمات الله التي نهى عن تجاوزها، وحدوده التي حدها لعباده ونهاهم عن انتهاكها، فالوقوف عند حدود الله وعدم انتهاك محارمه التي حرمها، وكذلك العمل بالطاعات وتعظيمها كل ذلك من تعظيم حرمات الله، وقد ثبت من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بَيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))(2) والشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ((ألا وإن حمى الله محارمه)).

ثم قال الله تعالى في نفس الآية:{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} أي وأحل الله لكم أيها الناس الأنعام أن تأكلوها إذا ذبحت على الطريقة المشروعة، فلم يحرم عليكم منها بحيرة، ولا سائبة ولا وصيلة ولا حاماً، ولا ما جعلتموه منها لآلهتكم، (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) أي لم يحرم عليكم منها إلا ما يتلى عليكم في الكتاب، من تحريم الأمور التي تضركم في دنياكم وأخراكم، وهي أنواع من الأنعام التي يحصل بأكلها ضرر للإنسان رحمة من الله وحكمة منه في أمره وشرعه، والذي يتلى علينا في الكتاب مما حرمه الله من الأنعام: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب فإن ذلك كله رجس. فأما الميتة فهي التي ماتت حتف أنفها دون تذكية، وأما الدم فكان أهل الجاهلية يشربونه فحرم ذلك لما فيه من ضرر، وما أهل به لغير الله أي ما ذبح لغير الله، والمنخنقة هي التي ماتت خنقاً، والموقوذة هي التي رميت بشيء غير جارح ولا مخرج للدم، والمتردية هي التي تردت ( سقطت) من مكان مرتفع فماتت، والنطيحة هي التي نُطحت فماتت، وما أكل السبع أي ما أكلتها السباع من غير الكلاب المعلمة، وما ذبح على النصب أي ما تم ذبحها عند المشاهد والأصنام والقباب وما أشبه ذلك، فهذا كله من الرجس الذي حرمه الله ورسوله، لكن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع لو أدركت قبل موتها فذكيت بسكين أو بما يريق الدم فإنها حلال؛ لتوفر الشرط لحلها وهو التذكية، وللمسألة تفصيل في كتب الفقه لا يتسع الموضوع لذكر ذلك.

وقوله تعالى: ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) من ههنا لبيان جنس الأوثان، أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وقرن الشرك بالله بقول الزور كقوله تعالى:  )قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (33) سورة الأعراف، ومنه شهادة الزور، وفي الصحيحين عن أبي بكرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا بلى يا رسول الله، قال: (( الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) – وكان متكئاً فجلس- فقال: (( ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور ))فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت).

قال ابن مسعود رضي الله عنه: ( تعدل شهادة الزور الإشراك بالله ) ثم قرأ هذه الآية.3 وقد جاء في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره الترمذي، فالله أعلم بحاله. وقد ذكر ابن جرير الطبري معنى قول الزور في الآية هنا فقال: (يقول جلَّ ذكره: واتقوا قول الكذب، والفرية على الله بقولكم في الآلهة: ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)4 وقولكم للملائكة: هي بنات الله، ونحو ذلك من القول، فإن ذلك كذب وزور، وشرك بالله) انتهى. وكأن الطبري يرى أن المقصود بقول الزور هنا في الآية -والذي قُرِن بالشرك- هو ما كان قولاً على الله بغير علم واتهاماً لله وملائكته، وغير ذلك من الكذب، وليس المقصود به مطلق قول الزور، الذي منه شهادة الزور والكذب الحاصل بين الناس، فإن ذلك لا يصل إلى حد الشرك، بل هو كبيرة من الكبائر. والله أعلم.

ثم قال الله تعالى (حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) أي مخلصين لله الدين منحرفين عن الباطل قصداً إلى الحق، ولهذا قال: ( غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ) ثم ضرب للمشرك مثلاً في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى فكأنه سقط من السماء، فقطعته الطيور في الهواء، أو كأنما أخذته الريح بقوة فرمته في مكان بعيد.

وهنا نجد توافقاً عجيباً بين أول الآية الأولى وبين بقية الآيتين، ذلك أن الله تعالى  لما ذكر تعظيم الحرمات، ومنها مناسك الحج، وترك المعاصي وخشية الوقوع فيها، وفعل الطاعات والمحافظة عليها، ذكر أنواعاً مما يعد من تعظيم الحرمات، ومن ذلك: كون الأنعام مما أحله الله، وترك ما كان يعتقده الجاهلون من تحريم أنواع من المباحات، كل ذلك من تعظيم أحكام الله تعالى لأن تحليل ما أحل الله، وتحريم ما حرم الله هو عين الامتثال لشرعه -سبحانه وتعالى- والامتثال لشرعه من تعظيم حرماته.. ثم ذكر أنواعاً من المعاصي والموبقات التي يعد اجتنابها من تعظيم حرمات الله، ومن ذلك: ترك عبادة الأوثان، التي هي من الشرك بالله، والذي يعد أكبر ذنب عصي الله به (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (72) سورة المائدة، ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (13) سورة لقمان ، وكذا ذكر من المحرمات قول الزور، بمعناه الذي يقصد به الكذب على الله، والقول عليه بغير علم، والقول بأنه اتخذ صاحبة أو ولداً، أو القول بأن الملائكة بنات الله ، فإن ذلك من أعظم الزور.. وبمعناه الآخر الذي يقصد به شهادة الزور، أو الكذب في أمور الناس، والمقصود: ذكر تحريم قول الزور مطلقاً، وأن تحريمه واجتنابه من تعظيم حرمات الله تعالى..

نسأل الله أن يجعلنا ممن يعظم حرماته، وممن يقف عند حدوده، ويعمل بأوامره، ويجتنب زواجره، إنه على كل شيء قدير..

هذا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..5


1– التفث كما في الآية التي قبل هذه الآية:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ..} معناه كما ذكر ابن جرير الطبري عن أئمة التفسير: هي مناسك الحج من حلق شعر، وأخذ شارب، ورمي جمرة، وطواف بالبيت.

2 – رواه البخاري ومسلم.

3– ذكره ابن كثير في تفسيره (3/229 ) ط: دار المعرفة.

4– سورة الزمر آية ( 3 ).

5 المراجع: تفسير الطبري وتفسير ابن كثير.