الإحصار
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
فإن حج بيت الله الحرام ركن من أركان الإسلام، يجب على كل مكلف مستطيع في العمر مرة، وقد أمر به الله سبحانه وتعالى كما قال: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (97) سورة آل عمران.
وقد يعترض بعض الناس في طريقهم إلى الحج مانع من موانع الوصول إلى مكة، فماذا يكون حكمه؟ هذا ما يسمى بالإحصار، وقد ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ..} (196) سورة البقرة.
وسيكون الحديث هنا عن الإحصار، وكلام العلماء في أحكامه.
المقصود بالإحصار:
الإحصار لغة: المنع، وشرعاً عند الحنفية: منع المحرم عن أداء الركنين (الوقوف والطواف). وعند الجمهور: منع المحرم من جميع الطرق عن إتمام الحج أو العمرة.
والمنع عند الحنفية: إما بعدو أو مرض أو ضياع نفقة أو حبس أو كسر أو عرج وغيرها من الموانع التي تمنع المحرم من إتمام ما أحرم به حقيقة أو شرعاً. ومن أحصر بمكة وهو ممنوع من الركنين: الوقوف والطواف، كان محصراً؛ لأنه تعذر عليه الإتمام، فصار كما إذا أحصر في الحل، وإن قدر على أحد الركنين، فليس بمحصر؛ لأنه إن قدر على الطواف تحلل به، وإن قدر على الوقوف فقد تم حجه، فليس بمحصر.
والمنع الذي يعدّ به المحرم محصراً عند الجمهور: هو ما يكون بعدو، فالإحصار بعدو بعد الإحرام مبيح للتحلل إجماعاً. ولا يجوز التحلل بعذر المرض أو الحبس في دَين يتمكن من أدائه، أو ذهاب نفقة، فمن مرض يصبر حتى يبرأ، فإذا برئ أتم ما أحرم به من حج أو عمرة. وعلى المدين أن يؤدي الدين ويمضي في حجه، فإن فاته الحج في الحبس لزمه المسير إلى مكة، ويتحلل بعمل عمرة، ويلزمه القضاء. ومن ذهبت نفقته بعث بهدي إن كان معه ليذبحه بمكة، وكان على إحرامه حتى يقدر على الوصول إلى البيت. وعليه، فكل من تعذر عليه الوصول إلى البيت بغير حصر العدو من مرض أو عرج أو ذهاب نفقة وضياع طرق ونحوه، لا يجوز له التحلل بذلك، بل يصبر حتى يزول عذره.
المحصر بمكة: من حصر بمكة عن البيت بعدو أو مرض أو حبس ولو بحق، ووقف بعرفة، فقد أدرك الحج، ولا يحل إلا بطواف الإفاضة، ولو بعد سنين.
مكان ذبح الهدي للمحصر:
إذا كان مع المحصر هدْيٌ لزمه نحره إجماعاً، وجمهور العلماء على أنه ينحره في المحل الذي حصر فيه، حلاًّ كان أو حرماً، وقد نحر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالحديبية وجزم الشافعي وغيره بأن الموضع الذي نحروا فيه من الحديبية من الحل لا من الحرم، واستدل لذلك بدليل واضح من القرآن وهو قوله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} الفتح: 25. فهو نص صريح في أن ذلك الهدي لم يبلغ محله، ولو كان في الحرم لكان بالغاً محله، وروى يعقوب بن سفيان من طريق مجمع بن يعقوب عن أبيه، قال: "لما حبس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه نحروا بالحديبية، وبعث الله ريحاً فحملت شعورهم فألقتها في الحرم".
وخالف في هذه المسألة أبو حنيفة -رحمه الله- الجمهور، وقال: لا ينحر المحصر هديه إلا في الحرم، فيلزمه أن يبعث به إلى الحرم، فإذا بلغ الهدي محله حل، وقال: إن الموضع الذي نحر فيه النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من الحديبية من طرف الحرم، واستدل بقوله بعد هذه الآية: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} البقرة: 196، ورد هذا الاستدلال بما تقدم من أنه نحر في الحل، وأن القرآن دل على ذلك، وأن قوله: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ} الآية، معطوف على قوله: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} لا على قوله: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي}، أو أن المراد بمحله المحل الذي يجوز نحره فيه، وذلك بالنسبة إلى المحصر حيث أحصر، ولو كان في الحل.
قال الشنقيطي رحمه الله: التحقيق في هذه المسالة هو التفصيل الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما، وهو أنه إن استطاع إرسال الهدي إلى الحرم أرسله ولا يحل حتى يبلغ الهدي محله، إذ لا وجه لنحر الهدي في الحل مع تيسر الحرم، وإن كان لا يستطيع إرساله إلى الحرم نحره في المكان الذي أحصر فيه من الحل.
قال البخاري في صحيحه في «باب من قال ليس على المحصر بدل» ما نصه:
وقال روح عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عبَّاس، رضي الله عنهما: إنما البدل على من نقض حجة بالتلذذ، فأما من حبسه عذر أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع.
وإن كان معه هدي وهو محصر نحره إن كان لا يستطيع أن يبعث به، وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله.انتهى. ولا ينبغي العدول عنه، لظهور وجهه كما ترى.
المحصر بلا هدي:
إذا لم يكن مع المحصر هدي فهل عليه أن يشتري الهدي ولا يحل حتى يهدي، أو له أن يحل بدون هدي.
ذهب جمهور العلماء إلى أن الهدي واجب عليه لقوله تعالى: {فَإِنْ اُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي}، فلا يجوز له التحلل بدونه إن قدر عليه، ووافق الجمهور أشهب من أصحاب مالك، وخالف مالك وابن القاسم الجمهور في هذه المسالة، فقالا: لا هدي على المحصر إن لم يكن ساقه معه قبل الإحصار.
وحجة الجمهور واضحة وهي قوله تعالى: {فَإِنْ اُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي}، فتعليقه ما استيسر من الهدي على الإحصار تعليق الجزاء على شرطه، يدل على لزوم الهدي بالإحصار لمن أراد التحلل به، دلالة واضحة كما ترى، فإن عجز المحصر عن الهدي فهل يلزمه بدل عنه أو لا؟
قال بعض العلماء: لا بدل له إن عجز عنه، وممن قال لا بدل لهدي المحصر أبو حنيفة -رحمه الله- فإن المحصر عنده إذا لم يجد هدياً يبقى محرماً حتى يجد هدياً، أو يطوف بالبيت.
وقال بعض من قال بأنه لا بدل له: إن لم يجد هدياً حل بدونه، وإن تيسر له بعد ذلك هدي أهداه.
وقال جماعة: إن لم يجد الهدي فله بدل، واختلف أهل هذا القول في بدل الهدي.
فقال بعضهم: هو صوم عشرة أيام قياساً على من عجز عما استيسر من الهدي في التمتع، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد، وهو إحدى الروايات عن الشافعي، وأصح الروايات عند الشافعية في بدل هدي المحصر أنه بالإطعام، نص عليه الشافعي في كتاب الوسط، فتقوم الشاة ويتصدق بقيمتها طعاماً، فإن عجز صام عن كل مد يوماً، وقيل: إطعام كإطعام فدية الأذى وهو ثلاثة آصع لستة مساكين، وقيل: بدله صوم ثلاثة أيام، وقيل: بدله صوم بالتعديل، تقوم الشاة ويعرف قدر ما تساوي قيمتها من الأمداد، فيصوم عن كل يوم مداً، وليس على شيء من هذه الأقوال دليل واضح، وأقربها قياسه على التمتع، والله تعالى أعلم.
الحلق والتقصير للمحصر:
هل يلزم المحصر -إذا أراد التحلل- حلق أو تقصير، أو لا يلزمه شيء من ذلك؟
اختلف العلماء في هذا، فذهب الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- ومحمد، إلى أنه لا حلق عليه ولا تقصير، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام الخرقي.
واحتج أهل هذا القول بأن الله قال: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي}، ولم يذكر الحلق ولو كان لازماً لبينه. واحتج أبو حنيفة ومحمد لعدم لزوم الحلق، بأن الحلق لم يعرف كونه نسكاً إلا بعد أداء الأفعال، وقبله جناية، فلا يؤمر به، ولهذا العبد والمرأة إذا منعهما السيد والزوج لا يؤمران بالحلق إجماعاً.
وعن الشافعي في حلق المحصر روايتان مبنيتان على الخلاف في الحلق، هل هو نسك أو إطلاق من محظور؟
وذهب جماعة من أهل العلم منهم مالك وأصحابه إلى أن المحصر عليه أن يحلق.
قال الشنقيطي: الذي يظهر لنا رجحانه بالدليل هو ما ذهب إليه مالك وأصحابه من لزوم الحلق؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ اُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ}. ولما ثبت في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم، أنه حلق لما صده المشركون عام الحديبية، وهو محرم، وأمر أصحابه أن يحلقوا وقال: (اللهم ارحم المحلقين) قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: (اللهم ارحم المحلقين) قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله؟ قال: (والمقصِّرين).1
فهذه أدلة واضحة على عدم سقوط الحلق على المحصر، وقياس -من قال بعدم اللزوم- الحلق على غيره من أفعال النسك التي صد عنها ظاهر السقوط؛ لأن الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة -مثلاً- كل ذلك منع منه المحصر وصد عنه، فسقط عنه؛ لأنه حيل بينه وبينه، ومنع منه.
وأما الحلق فلم يحل بينه وبينه وهو قادر على أن يفعله؛ فلا وجه لسقوطه، ولا شك أن الذي تدل نصوص الشرع على رجحانه أن الحلق نسك على من أتم نسكه، وعلى من فاته الحج وعلى المحصر بعدو، وعلى المحصر بمرض.
وعلى القول الصحيح من أن الحلق نسك، فالمحصر يتحلل بثلاثة أشياء: وهي النية، وذبح الهدي، والحلق. وعلى القول بأن الحلق ليس بنسك يتحلل بالنية والذبح.
هل على المحصر قضاء؟
قال الحنفية: إذا تحلل المحصر بالحج، فعليه حجة وعمرة قضاء عما فاته؛ لأنه في معنى فائت الحج الذي يتحلل بأفعال العمرة، فإن لم يأت بها قضاها. هذا إذا لم يحج من عامه، فإن حج منه فلا عمرة عليه؛ لأنه ليس في معنى فائت الحج. وعلى المحصر بالعمرة القضاء لما شرع فيه، وعلى المحصر القارن حجة وعمرتان، أما الحج وإحدى العمرتين: فلما تبين أنه في معنى فائت الحج، وأما الثانية: فلأنه خرج منها بعد صحة الشروع فيها..
ودليلهم في الجملة على وجوب القضاء: أن النبي -صلّى الله عليه وسلم- لما تحلل زمن الحديبية قضى من قابل، وسميت عمرة القضاء؛ ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه، فلزمه القضاء، كما لو فاته الحج.
وقال المالكية: على المتحلل بفعل عمرة أو بالنية حجة الفريضة، ولا تسقط عنه بالتحلل المذكور. أما حجة التطوع: فيقضيها إذا كان التحلل لمرض أو خطأ عدد أو حبس بحق، وأما لو كان التحلل لعدو أو فتنة أو حبس ظلماً، فلا يطالب بالقضاء.
وقال الشافعية: لا قضاء على المحصر المتطوع إن تحلل من إحصار عام أو خاص، لعدم وروده، وقد أحصر مع النبي -صلّى الله عليه وسلم- في الحديبية ألف وأربع مئة، ولم يعتمر معه في العام القابل إلا نفر يسير، أكثر ما قيل: إنهم سبع مئة.
وإن لم يكن تطوعاً نظر: إن كان نسكه فرضاً مستقراً عليه، كحجة الإسلام فيما بعد السنة الأولى من سني الإمكان، أو كانت قضاء أو نذراً، بقي في ذمته، كما لو شرع في صلاة فرض ولم يتمها، فإنها تبقى في ذمته. وإن كان غير مستقر كحجة الإسلام في السنة الأولى من سني الإمكان، اعتبرت الاستطاعة بعد زوال الإحصار، إن وجدت وجب الحج، وإلا فلا.
وكذلك قال الحنابلة في الصحيح من المذهب: لا قضاء على المحصر إن تحلل ولم يجد طريقاً أخرى إلا أن يكون واجباً، يفعله بالوجوب السابق؛ لأنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الوقت له، فلم يجب قضاؤه، كما لو دخل في الصوم يعتقد أنه واجب، فلم يكن. وأما خبر قضاء العمرة الذي احتج به الحنفية، فلم ينقل إلينا أن النبي -صلّى الله عليه وسلم- أمر أحداً بالقضاء، والذين اعتمروا مع النبي -صلّى الله عليه وسلم- كانوا نفراً يسيراً، كما تقدم في مذهب الشافعية.
والخلاصة: إن الحنفية يوجبون القضاء، والجمهور لا يوجبونه.
زوال الإحصار:
قال الحنفية: إذا زال الإحصار قبل التحلل، فإن قدر على إدراك الهدي الذي بعثه، ليذبح في الحرم، وعلى الحج، لم يجز له التحلل، ولزمه المضي، لزوال العجز قبل حصول المقصود بالخلف، ويفعل بهديه ما يشاء؛ لأنه ملكه، وقد كان مخصصاً لمقصود استغنى عنه. وإن قدر على إدراك الهدي دون الحج، تحلل؛ لعجزه عن الأصل. وإن قدر على إدراك الحج دون الهدي، جاز له التحلل استحساناً، لئلا يضيع عليه ماله مجاناً، إلا أن الأفضل التوجه لأداء الحج.
وقال الجمهور: متى زال الحصر قبل تحلله، فعليه المضي لإتمام نسكه، وهذا لا خلاف فيه. وإن زال الحصر بعد فوات الحج، تحلل بعمل عمرة، فإن فات الحج قبل زوال الحصر، تحلل بهدي.
ووجوب المضي لإتمام النسك فيما إذا كانت حجته حجة الإسلام، أو كانت الحجة واجبة؛ لأن الحج عند الأكثرين غير الشافعية يجب على الفور، فإن لم تكن الحجة واجبة، فلا شيء عليه، كمن لم يحرم.
هذا مما يتعلق بالإحصار من أحكام ومسائل شرعية.
نسأل الله أن يفقهنا في الدين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.2