هل ثواب الصلاة في مساجد مكة مثل الثواب في المسجد الحرام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
عظّم الله – عز وجل -، ورسوله – صلى الله عليه وآله وسلم – مكة، وجعل للمسجد الحرام ميزة دون بقية المساجد، واختصه بخصائص لفضله ومكانته، فهو أول مسجد وضع في الأرض {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}1، وعَنْ أَبي ذَرٍّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ؟ ((قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ))2، بل ثبت أن الأجور مضاعفة، والثواب عظيم في المسجد الحرام فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ))3.
مع هذا الأجر فقد جعل جزاء المعصية إثم كبير، وعقاب أليم {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}4، "فالقرآن الكريم يهدد من يريد اعوجاجاً في هذا النهج المستقيم بالعذاب الأليم: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فما بال من يريد ويفعل؟ إن التعبير يهدد ويتوعد على مجرد الإرادة زيادة في التحذير، ومبالغة في التوكيد، وذلك من دقائق التعبير"5، لهذا فقد حرم الله مكة على لسان خليله إبراهيم – عليه السلام – دل على هذا حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَدَعَا لِأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ… الحديث))6، ولأجل هذه الحرمة والمكانة فقد حُرِم على المرء أمور ((فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً ))7، أنها مكانة عظيمة، وقدسية جليلة لهذه البقعة من الأرض، ولأجل هذه المكانة فقد حرم الله – عز وجل – بعد عام الفتح أن يدخل هذه البقعة مشرك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}8.
مع هذا كله فهل الطاعة والأعمال الصالحة في مكة مضاعفة كما هي في الحرم، أم أن مضاعفة الأجور مختص بالحرم فقط؟، وهل ثواب الصلاة في مساجد مكة كالمسجد الحرام؟
"هذه المسألة من مسائل الخلاف بين أهل العلم، والراجح أنها ليست كالصلاة في المسجد الحرام، وأن تضعيف الصلاة إنما هو في المسجد الحرام فقط وهو مسجد الكعبة لما رواه مسلم من حديث ميمونة – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام))9، أمّا بقية المساجد التي داخل الحرم فإنها لاشك أفضل من المساجد التي هي خارج الحرم، ولهذا حين أقام النبي – عليه الصلاة والسلام – في الحديبية وبعضها من الحل وبعضها من الحرم؛ صار يصلي – صلى الله عليه وسلم – في الحرم، فالمسجد الحرام إذا أطلق يراد به المسجد نفسه قال الله – تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}10 فلو كان المراد بالمسجد الحرام ما دخل في الأميال لكان لا يجوز للمشركين أن يقربوا الأميال، بل يجب عليهم أن يبتعدوا عنها، ومعلوم أن لهم أن يقربوا من الأميال، ولكن لا يدخلوها، وإنما الذي يمتنع عليهم دخول الأميال فقط، مع أن نص الآية {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ}، فالنهي عن القربان لاشك أنه ليس هو النهي عن دخول المسجد الحرام، فدل ذلك على أن المسجد الحرام الذي ذكره النبي – عليه الصلاة – يراد به نفس هذا المسجد، ويؤيد ذلك أيضاً قول النبي – عليه الصلاة والسلام -: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى))11 ومعلوم أن الإنسان لو أراد أن يشد الرحال إلى مسجد الشعب مثلاً، أو مسجد الجميزة، أو غيره؛ لقلنا أن ذلك لا يجوز؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد… الحديث))، ولو أجزنا أن يشد الرحل إلى كل مسجد داخل من الحرم لكان يشد الرحال إلى عشرات المساجد، أو مئات المساجد، ولكن إذا امتلأ الحرم بالمصلين، وصار الناس متصلاً بعضهم ببعض، ويصلون في السوق؛ فإن الذي يرجى أن يكون هؤلاء المصلون في السوق لهم أجر من كان داخل المسجد؛ لأن هذا هو استطاعتهم، وهم قد شاركوا أهل المسجد في أداء هذه العبادة"12.
وخلاصة القول: أن الحنابلة ذهبوا إلى أن المضاعفة تختص بالمسجد الحرام الذي حول الكعبة، وأن مضاعفة المئة ألف صلاة إنما يكون ذلك لمن صلى في المسجد المحيط بالكعبة فقط، واستدلوا بقول النبي – عليه الصلاة والسلام -: ((إلا المسجد الحرام))، وذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية إلى أن ((المسجد الحرام)) يعم جميع الحرم، وإن كان للصلاة فيما حول الكعبة ميزة وفضل لكثرة الجماعة، وأن المساجد في مكة يحصل لمن صلى فيها التضعيف الوارد في الحديث، واستدلوا بقوله – تعالى -: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}13، قالوا: أن العهد لم يكن داخل الحرم بل فيما حوله.
نسأل الله – عز وجل – أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
1 سورة آل عمران (96).
2 البخاري (3115)، ومسلم (829).
3 البخاري (1116)، ومسلم (2469).
4 سورة الحج (25).
5 في ظلال القرآن (5/190).
6 مسلم (2422).
7 البخاري (101)، ومسلم (2413).
8 سورة التوبة (28).
9 البخاري (1116)، ومسلم (2469).
10 سورة التوبة (28).
11 البخاري (1115)، ومسلم (2383).
12 فتاوى إسلامية (2/26).
13 سورة التوبة (7).