الدعاء عند الملتزم

الدعاء عند الملتزم

 

الحمد لله ما حمده الذاكرون الأبرار، والصلاة والسلام على النبي المختار، وعلى آله وصحبه سادة الدنيا والثلة الأخيار، أما بعد:

فإن من الأعمال الجديرة والمستحبة للحاج والمعتمر القيام بها عبادة الدعاء عند الملتزم، فما المراد بالملتزم؟ وما هي الأحكام المتعلقة به؟

هذا ما سنحاول الحديث عنه إن شاء الله في هذه المقالة، والله نسأل التوفيق والرشاد.

أولاً: ما المراد بالملتزم:

الملتزَم بفتح الزاي: اسم مفعول من فعل التزم، يقال: التزمت الشيء، أي: اعتنقته فهو ملتزم، ومنه يقال: لما بين باب الكعبة والحجر الأسود: الملتزم؛ لأن الناس يعتنقونه، أي: يضمونه إلى صدورهم.1

وفي الاصطلاح: الملتزم ما بين الركن الذي به الحجر الأسود إلى باب الكعبة من حائط الكعبة المشرفة، وعرضه علو أربعة أذرع2، وقال الرحيباني: مساحته قدر أربعة أذرع بذراع اليد،3وسمي بذلك؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – التزمه، وأخبر أن هناك ملكًا يؤمن على الدعاء.4

الحكم التكليفي:

لا خلاف بين الفقهاء في أنه يستحب أن يلتزم الطائف الملتزم اقتداء بالرسول – صلى الله عليه وسلم – لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه قال: "طفت مع عبد الله: فلما جئنا دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ؟ قال: نعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر، وأقام بين الركن والباب، فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا، وبسطهما بسطاً، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم يفعله -"5، وذكر عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: "الملتزم بين الركن والباب"6.

وعند الحنابلة والشافعية: استحباب التزام الملتزم عند طواف الوداع، قال منصور: سألت مجاهداً: إذا أردت الوداع كيف أصنع؟ قال: تطوف بالبيت سبعاً، وتصلي ركعتين خلف المقام، ثم تأتي زمزم فتشرب من مائها، ثم تأتي الملتزم ما بين الحجر والباب فتستلمه، ثم تدعو، ثم تسأل حاجتك، ثم تستلم الحجر وتنصرف7، وقال الشافعي: أحب إذا ودع البيت أن يقف في الملتزم8، والحق في هذا أن يقال: أن له أن يلتزمه عند دخوله الكعبة إن تيسَّر له دخولها، وله أن يفعله قبل طواف الوداع، وله أن يفعله في أي وقت شاء قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "وإنْ أحبَّ أنْ يأتيَ الملتزم – وهو ما بين الحجر الأسود والباب – فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه وكفيه ويدعو ويسأل الله – تعالى – حاجته فعل ذلك، وله أنْ يفعل ذلك قبل طواف الوداع، فإنَّ هذا الالتزام لا فرق بين أنْ يكون حالَ الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين دخول مكة، ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسناً"9.

كيفية التزام الملتزم والدعاء فيه:

نص الفقهاء على أن كيفية التزام الملتزم أن يلصق صدره ووجهه بجدار البيت، ويضع خده الأيمن عليه، ويبسط ذراعيه وكفيه، بحيث تكون يده اليمنى إلى الباب واليسرى إلى الركن10، ويتعلق بأستار الكعبة كما يتعلق عبد ذليل بطرف ثوب لمولى جليل كالمتشفع بها، ويدعو حال تثبته وتعلقه بالأستار مجتهداً متضرعاً، متخشعاً، مكبراً، مهللاً، مصلياً على النبي – صلى الله عليه وسلم -، ويبكي أو يتباكى، ولو لم ينل الأستار يضع يديه على رأسه مبسوطتين على الجدار قائمتين، ويلتصق بالجدار، وبدعو بما شاء، وبما أحب من خيري الدنيا والآخرة، وليس هناك دعاء معين يدعوه المسلم في ذلك المكان، إلا أن صاحب المغني وحاشية الجمل أوردا هذا الدعاء، وأيده ابن تيمية في الفتاوى قال: "وإنْ شاء قال في دعائه الدعاء المأثور عن ابن عباس ومنه: اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضاً، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان الفراق إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم فاصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك أبداً ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير"، وإن أحب دعا بغير ذلك وصلى على النبي – صلى الله عليه وسلم -.11

استجابة الدعوة:

نقل عن الحسن بن يسار البصري قوله: "وما على وجه الأرض بلدة يستجاب فيها الدعاء في خمسة عشر موضعاً إلا مكة:

أولها: جوف الكعبة الدعاء فيها مستجاب، والدعاء عند الحجر الأسود مستجاب، والدعاء عند الركن اليماني مستجاب، والدعاء عند الحجر مستجاب، والدعاء خلف المقام مستجاب، والدعاء في الملتزم مستجاب، والدعاء عند باب بئر زمزم مستجاب، والدعاء على الصفا والمروة مستجاب، والدعاء بين الصفا والمروة مستجاب، والدعاء بين الركن والمقام مستجاب، والدعاء بمنى مستجاب، والدعاء بعرفات مستجاب، والدعاء في المشعر الحرام مستجاب، فهذه يا أخي خمسة عشر موضعاً فاغتنم الدعاء فيها، فإنها المواضع التي لا يرد فيها الدعاء، وهي المشاهد العظام التي ترجى فيها المغفرة، فاجتهد يا أخي في الدعاء عند هذه المشاهد العظام12، فعد من تلك المواطن التي يستجاب فيه الدعوة في مكة إن صح الأثر الدعاء عند الملتزم، وقد جاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أثر في ذلك يقول: لا يلتزم ما بينهما – أي بين الركن والباب – أحد؛ يسأل الله – تعالى – شيئاً إلا أعطاه إياه"13، وظاهره أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الداعي في نسك أو لا"14 والله أعلم بالصواب.

آداب يتحلى بها المسلم عند الملتزم:

وينبغي للداعي أن لا يضيِّق على غيره فيطيل الدعاء، كما لا يجوز مزاحمة الناس وأذيتهم من أجله، فإن رأى فسحة ومجالاً دعا، وإلا فيكفيه الدعاء في الطواف وسجود الصلاة.

قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -: "وهذه مسألة اختلف فيها العلماء مع أنها لم ترد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – (يعني لم ترد في حديث صحيح بناءً على تضعيف الأحاديث الواردة في هذا)، وإنما عن بعض الصحابة – رضي الله عنهم -، فهل الالتزام سنة؟ ومتى وقته؟ وهل هو عند القدوم، أو عند المغادرة، أو في كل وقت؟.

وسبب الخلاف بين العلماء في هذا أنه لم ترد فيه سنة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، لكن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا يفعلون ذلك عند القدوم، والفقهاء قالوا: يفعله عند المغادرة فيلتزم في الملتزم، وهو ما بين الركن الذي فيه الحجر والباب، وعلى هذا: فالالتزام لا بأس به ما لم يكن فيه أذية وضيق.15

نسأل الله أن يبلغنا قصدنا، ويلهمنا رشدنا، وأن يكتب لنا عند ملتزمه دعوة مستجابة ننجو بها من عذابه، وشديد عقابه؛ أنه على كل شيء قدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


1 المصباح المنير (2/553).

2 مشارق الأنوار (1/393).

3 مطالب أولي النهى (2 / 438).

4 حاشية الجمل على شرح المنهاج (2/441).

5 رواه أبو داود برقم (1623)، إلا أن الألباني ضعفه في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4/399).

6 مصنف عبد الرزاق (5/76)، وقال الألباني مستدركاً: روي ذلك – يعني محل الملتزم – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من طريقين يرتقي الحديث بهما إلى مرتبة الحسن، ويزداد قوة بثبوت العمل به عن جمع من الصحابة منهم ابن عباس – رضي الله عنه -، وصح من فعل عروة بن الزبير أيضاً، وكل ذلك مخرج في "الأحاديث الصحيحة" (2138)، وذكره في مناسك الحج والعمرة، وكان حكمه عليه بأنه صحيح الإسناد في كتابه السلسة الصحيحة برقم (2138).

7 المغني (3/239).

8 الأم (2/221).

9 مجموع الفتاوى (26/ 142، 143).

10 كشف القناع (2/513).

11 حاشية الجمل على شرح المنهاج (2/441)، المغني (3/239).

12 فضائل مكة (1/25).

13 مناسك الحج والعمرة لابن القيم الجوزية (273).

14 حواشي الشرواني (4/143).

15 الشرح الممتع (7 / 402-403)