الإلحاد في الحرم

الإلحاد في الحرم

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن مكة المكرمة هي أحب البقاع إلى الله – تعالى -، حيث فيها بيت الله الحرام الذي يأتيه الناس من كل حدب وصوب حجاجاً ومعتمرين، وقد جعلها الله – تبارك وتعالى – بلداً آمناً، وحرمها – تعالى – يوم خلق السماوت والأرض فهي بلد الله الحرام، وتوعد بعذاب عظيم لمن أراد فيها إلحاداً وظلماً.

ولهذه البلدة فضائل عدة نذكر منها:

1-      أن الله – تبارك وتعالى – فضل مكة المكرمة على غيرها من بقاع الأرض: فعن عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري – رضي الله عنه – قال: رأيت رسول الله – صلى الله عليه سلم – واقفاً على الحزورة فقال: ((والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرج))1.

2-      وجعل أفئدة الناس من كل مكان تهفوا إليها وتأتيها، وتشتاق لها ولا تمل منها مهما كرروا المجيء إليها، وهذا استجابة من الله لدعاء إبراهيم الخليل – عليه الصلاة السلام – حين ترك ذريته في وادٍ غير ذي زرع عند البيت الحرام فرزقهم الله من الثمرات تذكيراً لهم بنعمة الله عليهم بعد أن جعلهم آمنين مطمئنين قال الله – تبارك وتعالى -: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}2.

3-      وجعله بلداً آمناً بفضل الله – تبارك وتعالى – ثم ببركة دعاء إبراهيم الخليل – عليه الصلاة السلام – قال – تبارك وتعالى -: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ }3.

4-      وجعلها حرماً منذ أن خلق السماوات والأرض كما أخبر بذلك يوم فتح مكة: ((إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرَّفها، ولا يختلى خلاه)) فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم قال: ((إلا الإذخر))4.

5-      ولقد أقسم الله – تبارك وتعالى – بهذا البلد في أكثر من موضع في كتابه الكريم مما يدل على شرفه ومكانته وعظم شأنه قال – تبارك وتعالى -: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}5، وقال الله – تبارك وتعالى -: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}6.

6-      ثم من تكريم الله – تبارك وتعالى – لهذا البلد الأمين أن حرَّم الإلحاد فيه، وتوعد من فعل ذلك بالعذاب الأليم فقال – سبحانه وتعالى -: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}7، والإلحاد لفظ عام يعم كل معصية قولية أو فعلية، وهذا مما يحقق الأمن والأمان في البلد الحرام، والملحد في الحرم من أبغض الناس إلى ربنا – تبارك وتعالى – لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه))8، وقال بعض المفسرين في الآية: "فقيل: هو الشرك، وقيل: هو استحلال الحرام فيه أو ركوبه"9، وقال الضحاك بن مزاحم – رحمه الله – في الآية: "إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها فتكتب عليه10"، وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: "وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر إذا كان عازماً عليه، وإن لم يوقعه"11، وقال ابن مسعود – رضي الله عنه -: "لو أن رجلاً همَّ بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها، ولو أن رجلاً همَّ بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين، أو ببلد آخر؛ أذاقه الله من عذاب أليم، قال السدي: إلا أن يتوب)"12 وهذا يدل على أن الإلحاد في الحرم من كبائر الذنوب للوعيد الشديد في حق من فعله، بل هو في حق من همَّ بفعله ولم يفعله، فكيف بمن فعله؟ كما يدل عليه مفهوم الآية، وأقوال أهل العلم، والسيئة في الحرم أعظم منها في غيره.

7-      ومما يحقق الأمن والأمان في بلد الله الحرام أن الله – تبارك وتعالى – حرَّم القتل فيه، وسفك الدماء، وقد امتن الله – تبارك وتعالى – على ساكنيه بذلك كما في قوله – تبارك وتعالى -: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}13، يقول القرطبي – رحمه الله -: "إن مكة لم تزل حرماً آمناً من الجبابرة المسلطين، ومن الزلازل وسائر المثلات التي تحل بالبلاد، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة منها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى14".

ومما يحقق الأمن والأمان في بلد الله الحرام أنه قد ورد النهي عن حمل السلاح في مكة من غير حاجة أو ضرورة فلا يسفك بها دم، ولم يأذن الله بالقتال في مكة إلا في حق من ابتدأ القتال فيها، فيجوز قتالهم كما قال الله – تبارك وتعالى -: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ}15، ولقد أعلن الرسول – صلى الله عليه وسلم – الأمان في حق من ألقى السلاح ولم يقاتل يوم الفتح، وبعث منادياً ينادي من دخل المسجد الحرام فهو آمن، قال أبو سفيان – رضي الله عنه – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن)) فقالت الأنصار: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته، ونزل الوحي على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((قلتم أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته، ألا فما اسمي إذاً – ثلاث مرات – أنا محمد عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم)) قالوا: والله ما قلنا إلا ظناً بالله ورسوله، قال: ((فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم))16.

فمن الواجب على قاصدي الحرم من الوافدين وغيرهم ألا يهتكوا حرمة الحرم بإيذاء المسلمين، ونشر الذعر بينهم فقد قال الله – تبارك وتعالى – في حق أهله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}17، فهو أمان بأمان الله، فالواجب تأمين من دخله، وعدم التعرض له بسوء، بل كان ذلك معروفاً في الجاهلية، فإن الرجل منهم كان يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يؤذيه حتى يخرج، بل إن الأمن والأمان في البلد الحرام لا يقتصر على بني الإنسان، بل الشجر آمن، والصيد آمن لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: " لما فتح الله – عز وجل – على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكة قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسولها والمؤمنين، وإنها لن تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلي شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفدى، وإما أن يقتل)) فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إلا الإذخر))18، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف))19 الحديث.

ولقد كان السلف الصالح – رحمهم الله – يقدرون حرمة البيت ويعظمونه في نفوسهم حتى إن منهم من يتقي سكنى مكة خشية الوقوع في المعاصي، ومما يدل على أمان هذا البلد الحرام أنه لما همَّ أصحاب الفيل بتخريب البيت أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول قال الله – تبارك وتعالى -: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ}20 فكانوا عظة وعبرة لمن بعدهم.

فعلى المسلم أن يعظم ما عظمه الله ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -، وأن يحذر من التعدي على حدود الله في كل مكان وبخاصة في البلد الحرام، فهو بلد الله الآمن، فليعرف قدره، وليراعي حرمته، وليحفظ له مكانته، وليحقق الأمن فيه بعمارته بالطاعة ونشر الفضيلة.

والله أعلم، وصلى الله على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.


1 رواه الترمذي في سننه برقم (3925) وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح؛ ورواه الحاكم في المستدرك برقم (4270)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي؛ وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3082), وفي صحيح ابن ماجة برقم (2523).

2 سورة إبراهيم (37).

3 ­­سورة القصص (57).

4 رواه البخاري في صحيحه برقم (3017)؛ ومسلم في صحيحه برقم (1353).

5 سورة البلد (1-2).

6 سورة التين (1-3).

7 سورة الحج (25).

8 رواه البخاري في صحيحه برقم (6488).

9 تفسير الطبري (18/600).

10 تفسير الطبري (18/601).

11 تفسير ابن كثير (5/411).

12 تفسير البغوي (5/377).

13 سورة العنكبوت (67).

14 تفسير القرطبي (2/117).

15 سورة البقرة (191).

16 رواه مسلم في صحيحه برقم (1780).

17 سورة آل عمران (97).

18 رواه مسلم في صحيحه برقم (1355).

19 رواه البخاري في صحيحه برقم (1736).

20 سورة الفيل (1-5).