عندما تضلعوا من زمزم

عندما تضلعوا من زمزم

 

الحمد لله الذي يُفرج بكرمه كل كرب تأزم، أحمده سبحانه وأشكره أكرمنا بفضله بماء زمزم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا شبيه ولا مثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وحبيبنا محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ومزيداً إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن القاصد لبيت الله الحرام يجعل نصب عينيه التروي من ذلك الماء الذي لم ينقطع منذ أن أجراه الله لأم إسماعيل هاجر – عليهما السلام -، حيث أخبر عنه – صلى الله عليه وسلم – بأنه ((طعام طعم، وشفاء سقم))1، ذلك هو ماء زمزم سيد المياه وأشرفها، وأجلها قدراً، وأحبها إلى النفوس، وأغلاها ثمناً، وأنفسها عند الناس، وهو هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل2، زمزم تلك العين التي لا تنضب، وذلك الرواء الذي به شاربه يرغب.

زمزم المعجزة الخالدة، والآية الباهرة على تعاقب السنيين وتتابع الأزمان، شهد لها البعيد قبل الغريب، والعدو قبل الصاحب، لم يأت في مثل نقاوته وبهاء صفائه أي من مياه الدنيا قاطبة، ولم تصل إلى شبه تراكيبه ومكوناته شيء من مياه العالم بأنهاره الجارية، وعيونه العذبة، ومنابعه الرقراقة، ولا حتى استطاعوا بمزيج كيميائيتهم أن يصلوا إلى خصائصه ومميزاته؛ ليبقى زمزم شامة فخر لكل مسلم يشهد بالوحدانية كونه نبع في أشرف بقعة، وأطهر محلة على وجه الأرض التي هي مهوى أفئدتهم، ومنتهى رغبتهم، وقبلة صلاتهم، و{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ}3.

معجزة زمزم:

تتجلى في أمور عدة لكن أوضحها ما أخبر به الصادق المصدوق من وصفه ربه بقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}4 فقد جاء عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ماء زمزم لما شرب له))5، قال صاحب شرح سنن ابن ماجه "لما شرب له من مهمات الدنيا والآخرة"6، ويا له من خبر دل على صدقه، ويقين علمه؛ أجيال أمته من بعده، فهاهي تتحدث عن بركته وصدق منفعته على من تضلع وشرب من معينه، يقول ابن القيم معلقاً: "وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله، وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثر ولا يجد جوعاً، ويطوف مع الناس، كأحدهم أخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوماً، وكان له قوة بجامع بها أهله ويصوم، ويطوف مراراً"7، ومن أجل هذا كان – عليه الصلاة والسلام – يحب هذا الماء، بل كان يبعث – صلى الله عليه وسلم – إلى واليه بمكة عتاب بن أسيد، ويأمره أن يوقر البعير بماء زمزم، ويبعثه إليه بالمدينة – صلوات الله وسلامه عليه -.

لما شرب له:

ومن الأدلة التي تدل على أنه ((لما شرب له)) ما ثبت في الصحيح من حديث أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري – رضي الله عنه – "أنه لما آذاه المشركون، واختبأ تحت ستار الكعبة؛ كان يشرب زمزم، وكان يستطعم به من الجوع، حتى سمن – رضي الله عنه -، وتكسرت عكن بطنه، فكان له طعام طعم كما قال – عليه الصلاة والسلام -: ((وما يدريك أنه طعام طعم))8، فماء زمزم ماء مبارك، ويشربه الإنسان وينوي به الخير قال أبو بكر بن العربي – رحمه الله -: "وكذلك يكون إلى يوم القيامة لمن صحت نيته، وسلمت طويته، ولم يكن به مكذباً، وشربه مجرباً، فإن الله مع المتوكلين، وهو يفضح المجربين"9.

ولكن لم يثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – دعاء مخصوص لزمزم، إلا أن ابن عباس – رضي الله عنه – كان إذا شرب من زمزم يسأل الله فيقول: "اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء"10، والأمر في هذا واسع بأن يسأل الإنسان ربه من خيري الدنيا والآخرة.

التضلع من زمزم:

وقد سُنَّ التضلع من زمزم: وهو الإكثار من شربه حتى تمتد جوانبه وأضلاعه11، واشتهر حديث جابر المتقدم ((ماء زمزم لما شرب له))12 عند جماعة من العلماء والصالحين – رحمهم الله تعالى -، فشربوا من زمزم وتضلعوا؛ لأجل مقاصد جليلة، وحوائج جزيلة فنالوها حتى قال الإمام المناوي: "إن التجربة دلت على صحته، فإن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته مستعيذاً أعاذك الله، وإن شربته لتقطع ظمأك قطعه الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله؛ لأن أصله من الرحمة، بدأ غياثاً، فدام غياثاً"13.

عندما تضلعوا من زمزم:

إليك هذه المواقف العطرة لتعلم لأي شيء كانوا يشربون زمزم لما بلغهم خبر نبيهم – صلى الله عليه وسلم -: ((زمزم ولما شرب له))، فتحلق مع أناس ارتأوا العلى، واستشرفوا مراقي المجد، بهمة الطامح للنهل من علوم الشريعة، والراجي النجاة يوم البعث والنشور، مع جرعة ماء تجري إلى أجوافهم، يرسلون دعوات تنم عن قلوب محترقة تسأل من ربها أن يكرمها بخير خيري الدنيا، وأن يؤمنها ظمأها يوم عطشها في عرصات القيامة.

لقد كان بعض السلف الصالح يرجون بشرب زمزم جمع شتات العلم، ولم متفرقه:

   قال السيوطي: حكي عن شيخ الإسلام أبي الفضل ابن حجر أنه قال: "شربت ماء زمزم لأصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ"، فبلغها وزاد عليه14"، ويقول الذهبي: "وأنا شربته مرة وأنا في بداية طلب الحديث، وسألت الله أن يرزقني حالة الذهبي في حفظ الحديث، ثم حججت بعد عشرين سنة وأنا أجد من نفسي طلب المزيد على تلك الرتبة، فسألت مرتبة أعلى منها فأرجو الله أن أنال ذلك"15.

   وجاء من بعده السيوطي فشرب من ماء زمزم على نية أن يصل في الفقه إلى رتبة سراج الدين البُلْقِينيّ، وفي الحديث إلى الحافظ ابن حجر العسقلاني.

   يقول الإمام ابن العربي المفسر المشهور: "ولقد كنت بمكة مقيماً في ذي الحجة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وكنت أشرب ماء زمزم كثيراً، وكلما شربته نويت به العلم والإيمان، حتى فتح الله لي بركته في المقدار الذي يسره لي من العلم، ونسيت أن أشربه للعمل، ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله علي فيهما، ولم يقدر، فكان صغوي إلى العلم أكثر منه إلى العمل، ونسأل الله الحفظ والتوفيق برحمته"16.

   قال أبو بكر محمد بن جعفر: سمعت ابن خزيمة وسئل من أين أوتيت هذا العلم؟ فقال: "قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ماء زمزم لما شرب له))، وإني لما شربت ماء زمزم سألت الله علماً نافعاً".17

   وقال ابن عساكر: "سمعت الحسين بن محمد يحدث عن أبي الفضل بن خيرون أو غيره أن الخطيب البغدادي ذكر أنه لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله ثلاث حاجات:

·       فالحاجة الأولى: أن يحدث بتاريخ بغداد بها.

·       الثانية: أن يملي الحديث بجامع المنصور.

·       الثالثة: أن يدفن عند بشر الحافي، فقضى الله له ذلك".18

       وفي ترجمة الشيخ يحيى بن أحمد الأنصاري القرطبي أنه شرب ماء زمزم لحفظ القرآن، فتيسر عليه حفظه في أقرب مدة.

       وشربه الحاكم أبو عبد الله لحسن التصنيف ولغير ذلك فصار أحسن أهل عصره تصنيفاً.

وربما شربوه لمقاصد رفيعة أخرى فأصابوها وظفروا بها، فقد قال ابن حجر: واشتهر عن الشافعي الإمام أنه شرب ماء زمزم للرمي، فكان يصيب من كل عشرة تسعة.19

وقال الحافظ السَّخاويُّ في ترجمة ابن الجزري: كان أبوه تاجراً، و مكث أربعين سنة لم يرزق وَلَداً، فحجَّ وشَرِبَ ماءَ زمزم بنية أن يرزقه الله ولداً عالماً، فوُلِدَ له محمد الجزري بعد صلاة التراويح20، وابن الجزري هو من هو في الحفظ والعلم، وعلى الأخص علم القراءات.

وهمة أخري لأجلها تضلعوا من زمزم:

فجاء عن بعض السلف أنه لما شرب زمزم قال: "اللهم إنه قد جاء عن نبيك – صلى الله عليه وسلم – أن ماء زمزم لما شرب له، اللهم إني أشربه لظمأ يوم الآخرة"21.

وقال ابن عيينة: "قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: "اللهم إني أشربه لظمأ يوم القيامة"22.

نسأل الله أن يجعل أضلاعنا رواء من زمزم، وأن يسقينا منها ما يطفئ ظمأ عطشنا يوم الهواجر، وأن يصلح نياتنا والمقاصد.

والحمد لله رب العالمين.


1 رواه مسلم برقم (4520).

2 زاد المعاد (4/392).

3 سورة الروم (4).

4 سورة النجم (3-4).

5 رواه ابن ماجه (3053)، وأحمد برقم (14320)، وصححه الألباني في مختصر إرواء الغليل (218).

6 شرح سنن ابن ماجه (1/220).

7 – زاد المعاد (4\393)

8 سبق تخريجه برقم (1).

9 أحكام القرآن لابن العربي (3/98).

10 رواه الدارقطني في سننه برقم (2771).

11 تاج العروس (21/426).

12 رواه ابن ماجه (3053)، وأحمد برقم (14320)، وصححه الألباني في مختصر إرواء الغليل (218).

13 فيض القدير (5/404).

14 طبقات الحفاظ (1/522).

15  مواهب الجليل (3/116).

16 أحكام القرآن لابن العربي (3/98).

17 سير أعلام النبلاء (14/370).

18 طبقات الشافعية الكبرى (4/35).

19 شرح فيض القدير (2/507).

20 الغاية في شرح الهداية في علم الرواية (1/58).

21 أخبار مكة للفاكهي (2/32).

22 كنز العمال (14/54).