بناء الكعبة

بناء الكعبة

 

المقدمة:

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، والصلاة والسلام على من بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإن الله قد امتن على عباده بأن بعث إليهم الرسل، وأنزل معهم الكتب، فبينوا للناس طريق الخير ورغبوهم فيها، وبينوا لهم طريق الشر وحذروهم منها، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فكانوا رحما رفقاء بمن أرسلوا إليهم يدعون الله لهم بكل خير، فبلغوا البلاغ المبين، وتركوا الناس على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، والله نسأل أن يجمعنا بهم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

الآيات:

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(129)} سورة البقرة.

شرح الآيات:

قوله تعالى: {وإذ ابتلى} امتحن واختبر {إبراهيمَ رَبُّهُ}؛ {إبراهيمَ} مفعول مقدم؛ و{رَبُّهُ} فاعل مؤخر؛ فالمبتلي هو الله؛ والمبتلى هو إبراهيم؛ {بكلمات}؛ هذه الكلمات التي هي محل الابتلاء، والاختبار  أطلقها الله -سبحانه وتعالى-؛ فهي كلمات كونية؛ وشرعية؛ أو جامعة بينهما؛ واختلف المفسرون في هذه الكلمات؛ وأصح الأقوال فيها أن كل ما أمره به شرعاً، أو قضاه عليه قدراً، فهو كلمات؛ فمن ذلك أنه ابتُلي بالأمر بذبح ابنه، فامتثل؛ لكن الله -سبحانه وتعالى- رفع ذلك عنه حين استسلم لربه؛ وهذا من الكلمات الشرعية؛ وهذا امتحان من أعظم الامتحانات؛ ومن ذلك أن الله امتحنه بأن أوقدت له النار، وأُلقي فيها؛ وهذا من الكلمات الكونية؛ وصبر، واحتسب؛ فأنجاه الله منها، وقال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} سورة الأنبياء(69)؛ وكل ما قدره الله عليه مما يحتاج إلى صبر، ومصابرة، أو أمره به فهو داخل في قوله: {بكلمات}. قوله: {إني جاعلك} أي مصيرك؛ {للناس إماماً} عامة فيمن أتى بعده: فإنه صار إماماً حتى لخاتم الرسل محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} سورة النحل(123). قوله: {ومن ذريتي} أي واجعل من ذريتي إماماً؛ وهنا {مِن} يحتمل أنها لبيان الجنس؛ وبناءً على ذلك تصلح {ذريتي} لجميع الذرية؛ يعني: واجعل ذريتي كلهم أئمة؛ ويحتمل أنها للتبعيض؛ وعليه فيكون المقصود: اجعل بعض الذرية إماماً؛ والكلام يحتمل هذا، وهذا؛ ولكن سواء قلنا؛ إنها لبيان الجنس؛ أو للتبعيض؛ فالله -تعالى- أعطاه ذلك مقيداً، فقال تعالى: {لا ينال} أي لا يصيب {عهدي} أي تعهدي لك بهذا {الظالمين}؛ و{عهدي} فاعل؛ و{الظالمين} مفعول به؛ أي أجعل من ذريتك إماماً؛ ولكن الظالم من ذريتك لا يدخل في ذلك.

قوله: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً}؛ {إذ} للظرفية؛ وهي متعلقة بمحذوف تقديره: «اذكر»؛ يعني: اذكر يا محمد للناس هذا الأمر الذي صيرناه للناس؛ و{جعلنا} أي صيرنا؛ {البيت} المراد به الكعبة؛ لأنها بيت الله -عز وجل-؛ وأتى هنا بـ «أل» للتفخيم والتعظيم؛ يعني: البيت المعهود الذي لا يُجهل، ولا يُنسى جعلناه {مثابة}أي مرجع يثوب الناس إليه، ويرجعون إليه من كل أقطار الدنيا سواء ثابوا إليه بأبدانهم، أو بقلوبهم. وقوله: {أمناً} أي وجعلناه أمناً للناس؛ أي مكان أمن يأمن الناس فيه على دمائهم، وأموالهم حتى أشجار الحرم، وحشيشه آمن من القطع.

قوله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} أي صيِّروا، واجعلوا؛ وفيها قراءتان؛ إحداهما: بفعل الأمر: {اتخِذوا}؛ والثانية: بفعل الماضي: {اتخَذوا} أي: واتخذ الناس؛ وعلى الأولى: اتخذوا أنتم من مقام إبراهيم مصلًّى؛ و{مِن} هنا لبيان الجنس؛ ويجوز أن تُضمَّن «في»؛ يعني: واتخذوا في هذا المقام مكاناً للصلاة؛ و «المقام» مكان القيام؛ ويطلق إطلاقين: إطلاقاً عاماً، وهو مكان قيام إبراهيم للعبادة؛ وإطلاقاً خاصاً وهو مقامه لبناء الكعبة؛ فعلى الإطلاق الأول يكون جميع مواقف الحج، ومشاعر الحج من مقام إبراهيم: عرفة؛ مزدلفة؛ الجمرات؛ الصفا، والمروة… إلخ؛ وعلى الإطلاق الثاني الخاص يكون المراد الحجر المعين الذي قام عليه إبراهيم- عليه السلام- ليرفع قواعد البيت؛ وهو هذا المقام المشهور المعروف للجميع. وقوله: {مصلًّى} المصلى مكان الصلاة؛ وهل المراد بالصلاة الصلاة اللغوية؛ أو الصلاة الشرعية المعروفة؟ يحتمل هذا، وهذا؛ فإن قلنا بالأول شمل جميع مناسك الحج؛ لأنها كلها محل للدعاء؛ وإن قلنا بالثاني اختص بالركعتين بعد الطواف خلف المقام؛ ويؤيده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين فرغ من طوافه تقدم إلى مقام إبراهيم، وقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، وصلى ركعتين1؛ والقول بالعموم أشمل؛ ويجاب عن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه فسر المعنى ببعض أفراده؛ وهذا لا يقتضي التخصيص عند أهل التحقيق من الأصوليين. قوله: {وعهدنا إلى إبراهيم} العهد الوصية بما هو هام؛ وليست مجرد الوصية؛ بل لا تكون عهداً إلا إذا كان الأمر هاماً؛ ومنه عهْد أبي بكر بالخلافة إلى عمر؛ ومعلوم أن أهم ما يكون من أمور المسلمين العامة الخلافة. قوله: {وإسماعيل} هو ابن إبراهيم؛ وهو أبو العرب؛ وهو الذبيح على القول الصحيح؛ يعني: هو الذي أمر الله إبراهيم أن يذبحه؛ وهو الذي قال لأبيه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} سورة الصافات(102)؛ وقول من قال: "إنه إسحاق" بعيد؛ وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا منقول عن بني إسرائيل: لأن بني إسرائيل يودون أن الذبيح إسحاق؛ لأنه أبوهم دون إسماعيل؛ لأنه أبو العرب عمهم؛ ولكن من تأمل آيات «الصافات» تبين له ضعف هذا القول. قوله: {أن طهرا بيتي}؛ {أنْ} تفسيرية؛ لأنّ {عهدنا} فيه معنى القول دون حروفه؛ أي أنّ العهد هو قوله تعالى: {طهرا بيتي… }؛ و{طهرا} فعل أمر؛ و{بيتي} المراد به الكعبة؛ وأضافها الله -سبحانه وتعالى- إلى نفسه إضافة تشريف؛ والمراد تطهير البيت من الأرجاس الحسية والمعنوية. قوله: {للطائفين} أي للذين يطوفون بالبيت؛ فاللام هذه للتعليل -أي لأجلهم-؛ والثاني: {العاكفين} أي الذين يقيمون فيه للعبادة؛ والثالث: {الركع السجود} أي الذين يصلون فيه؛ وعبر عن الصلاة بالركوع، والسجود؛ لأنهما ركنان فيها؛ فإذا أطلق جزء العبادة عليها كان ذلك دليلاً على أن هذا الجزء ركن فيها لا تصح بدونه؛ و{الركع} جمع راكع؛ و{السجود} جمع ساجد؛ وهنا بدأ بـ{الطائفين}؛ لأن عبادتهم خاصة بهذا المسجد، -المسجد الحرام-، ثم بـ{العاكفين}؛ لأن عبادتهم خاصة بالمساجد؛ لكنها أعم من الطائفين؛ وثلّث بـ{الركع السجود}؛ لأن ذلك يصح بكل مكان بالأرض؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم-: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)؛ فإذاً يكون الله سبحانه وتعالى بدأ بالأخص فالأخص.

قوله: {وإذ قال إبراهيم} أي اذكر إذ قال إبراهيم: {رب اجعل} أي صيِّر {هذا} أي مكة {بلداً آمناً}؛ «البلد» اسم لكل مكان مسكون سواء كان ذلك مدينة كبيرة، أو مدينة صغيرة؛ كله يسمى بلداً؛ وقد سمَّى الله -سبحانه وتعالى- مكة بلداً؛ كما في قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} سورة التين( 3)؛ وسماها الله –تعالى- قرية؛ كما في قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} سورة محمد(13). وقوله تعالى: {آمناً} قال بعض المفسرين: أي آمناً مَن فيه؛ لأن البلد نفسه لا يوصف بالأمن، والخوف؛ "البلد" أرض، وبناء؛ وإنما الذي يكون آمناً: أهلُه؛ أما هو فيكون أمْناً؛ والذي ينبغي هو أن يبقى على ظاهره، وأن يكون البلد نفسه آمناً؛ وإذا أمِنَ البلد أمِن مَن فيه -وهو أبلغ-؛ لأنه مثلاً لو جاء أحد، وهدم البناء ما كان البناء آمناً، وصار البناء عرضة لأن يتسلط عليه من يُتلفه؛ فكون البلد آمناً أبلغ من أن نفسره بـ"آمناً أهله"؛ لأنه يشمل البلد، ومن فيه؛ ولهذا قال تعالى: {وارزق أهله}؛ لأن البلد لا يرزق.

قوله تعالى: {ارزق} فعل دعاء؛ ومعناه: أعطِ؛ و{أهله من الثمرات}؛ {من آمن بالله واليوم الآخر} الإيمان في اللغة: التصديق؛ وفي الشرع: التصديق المستلزم للقبول، والإذعان؛ والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده، وربو بيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته؛ و{اليوم الآخر} هو يوم القيامة؛ وسمي آخراً؛ لأنه لا يوم بعده؛ وسبق بيان ذلك. قوله: {قال ومن كفر} القائل هو الله -سبحانه وتعالى-؛ فأجاب الله -تعالى- دعاءه؛ يعني: وأرزق من كفر أيضاً؛ فهي معطوفة على قوله تعالى: {من آمن}؛ ولكنه تعالى قال في الكافر: {فأمتعه قليلاً..} إلخ. قوله: {فأمتعه} أي يعطيه بلغة يتمتع بها. قوله: {قليلاً} القلة هنا تتناول الزمان، وتتناول عين الممتَّع به؛ فالزمن قصير: مهما طال بالإنسان العمر فهو قليل. قوله: {ثم أضطره إلى عذاب النار} أي ألجئه إلى عذاب النار؛ وإنما جعل الله ذلك إلجاءً؛ لأن كل إنسان يفر من عذاب النار؛ لكنه لا بد له منه إن كان من أهل النار؛ لأنه هو الذي فعل الأسباب التي توجبه؛ و «العذاب» العقوبة التي يتألم بها المرء؛ و{النار} اسم معروف. قوله: {وبئس المصير} أي المرجع الذي يصير إليه الإنسان.

لما ذكر الله -سبحانه وتعالى- أنه جعل هذا البيت مثابة للناس بيَّن الله –تعالى- كيف نشأ هذا البيت، فقال تعالى: {وإذ يرفع}؛ {إذ} ظرف عاملها محذوف؛ والتقدير: واذكر إذ يرفع؛ و{يرفع} فعل مضارع؛ والمضارع للحاضر، أو للمستقبل؛ ورفع البيت ماضٍ؛ لكنه يعبَّر بالمضارع عن الماضي على حكاية الحال كأن إبراهيم يرفع الآن، يعني: ذكِّرهم بهذه الحال التي كأنها الآن مشاهدة أمامهم. قوله: {إبراهيم القواعد} القواعد جمع قاعدة؛ وقاعدة الشيء أساسه. قوله: {من البيت} بيان للقواعد؛ و{البيت} الكعبة؛ {وإسماعيل} و{إبراهيم} هو مشارك لأبيه في رفع القواعد؛ وأخّر ذكر إسماعيل؛ لأن الأصل: إبراهيم؛ وإسماعيل مُعِين؛ هذا الظاهر -والله أعلم-. قوله: {ربنا تقبل منا} يعني كل واحد يقول بلسانه: ربنا تقبل منا؛ هذا ظاهر اللفظ؛ و «القبول» أخذ الشيء، والرضا به. قوله: {إنك أنت السميع العليم} هذه الجملة تعليل لطلب القبول؛ يعني: نسألك أن تقْبل لأنك أنت السميع العليم: تسمع أقوالنا، وتعلم أحوالنا؛ و{السميع العليم} أي ذو العلم.

قوله: {ربنا واجعلنا مسلمين} يعني ربنا واجعلنا مع قبولك مسلمين لك؛ و{اجعلنا} أي صيِّرنا. قوله: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} يعني واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك؛ فأتى بـ{من} التي للتبعيض؛ والمراد بـ{ذريتنا} من تفرعوا منهما؛ فذرية الإنسان من تفرعوا منه. قوله: {أمة مسلمة لك} هذه الأمة هي أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لا يصدق على أحد أنه من ذرية إبراهيم، وإسماعيل إلا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن اليهود، والنصارى ليسوا من بني إسماعيل؛ بل من بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. قوله: {وأرنا مناسكنا} أي بيِّنها لنا حتى نراها؛ و «المناسك» جمع منسك؛ وهو هنا مكان العبادة. قوله: {وتب علينا} أي وفقنا للتوبة فنتوب؛ والتوبة من العبد: هي الرجوع من المعصية إلى الطاعة؛ ومن الله -عز وجل- هي توفيق العبد للتوبة، ثم قبولها منه. قوله: {إنك أنت التواب الرحيم} هذا من باب التوسل بأسماء الله -عز وجل- المناسبة للمطلوب؛ و{التواب} صيغة مبالغة لكثرة من يتوب الله عليهم، وكثرة توبته على العبد نفسه؛ و{الرحيم} أي الموصوف بالرحمة التي يرحم بها من يشاء من عباده. قوله: {ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك} أي أرسل فيهم رسولاً مرسَلاً من عندك يقرأ عليهم آياتك، ويبينها لهم؛ كما قال الله -تبارك وتعالى-: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} سورة النحل(44). قوله: {ويعلمهم الكتاب} أي القرآن، وما فيه من أخبار صادقة نافعة، وأحكام عادلة؛ {والحكمة} قيل: هي السنة؛ لقوله تعالى: {وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} سورة النساء(113)؛ ويحتمل أن يكون المراد بها معرفة أسرار الشريعة المطهرة، وأنها شريعة كاملة صالحة لكل زمان، ومكان. قوله: {ويزكيهم} أي ينمي أخلاقهم، ويطهرها من الرذائل. قوله: {إنك أنت العزيز} أي ذو العزة؛ والقهر، والغلبة؛ و{الحكيم} أي ذو الحُكم، والحكمة.

بعض فوائد الآيات:

1. أن الله قد يبتلي بعض العباد بتكليفات خاصة؛ لقوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه} وكما أنه يبتلي بعض العباد بتكليفات خاصة شرعية، فإنه قد يبتليهم بأحكام كونية، مثل: مرض، مصائب في المال، أو في الأهل؛ وما أشبه ذلك.

2. فضيلة إبراهيم -عليه السلام-؛ لقوله: {ربه} حيث أضاف ربوبيته إلى إبراهيم- وهي ربوبية خاصة-؛ ولقوله: {فأتمهن}؛ ولقوله: {إني جاعلك للناس إماماً}.

3. أن من أتم ما كلفه الله به كان من الأئمة؛ لقوله: {إني جاعلك للناس إماماً}؛ فإنه لما أتمَّهن جوزي على ذلك بأن جُعل للناس إماماً.

4. أنه ينبغي للإنسان أن يدعو لذريته بالإمامة، والصلاح؛ لقوله: {قال ومن ذريتي}؛ وإبراهيم طلب أن يكون من ذريته أئمة، وطلب أن يكون من ذريته من يقيم الصلاة: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} سورة إبراهيم(40).

5. وجوب اتخاذ المصلى من مقام إبراهيم؛ لقوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى}؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب. فإن قلنا بأن المراد بالمقام جميع مناسك الحج فلا إشكال؛ لأن فيه ما لا يتم الحج إلا به كالوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة؛ ومنه ما يصح الحج بدونه مع وجوبه كالمبيت بمزدلفة، ورمي الجمرات؛ ومنه ما يصح الحج بدونه وليس بواجب؛ كصلاة الركعتين بعد الطواف على المشهور؛ وإذا قلنا: المراد به الركعتان بعد الطواف صار فيه إشكال: فإن جمهور العلماء على أنهما سنة؛ وذهب الإمام مالك إلى أنهما واجبتان؛ والذي ينبغي للإنسان: أن لا يدعهما؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسر الآية بهما، حيث تقدم إلى مقام إبراهيم بعد الطواف، فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}.

6. وجوب تطهير البيت من الأرجاس الحسية، والمعنوية؛ لقوله: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا} والعهد هو الوصية بالأمر الهام. ويؤيد ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} سورة التوبة(28).

7. فضيلة هذه العبادات الأربع: الطواف، والاعتكاف، والركوع، والسجود؛ وأن الركوع والسجود أفضل هيئة في الصلاة؛ فالركوع أفضل هيئة من القيام؛ والسجود أفضل منه؛ والقيام أفضل من الركوع، والسجود بما يُقرأ فيه؛ ولهذا نُهي المصلي أن يقرأ القرآن راكعاً، أو ساجداً؛ فإنَّ ذِكْر القيام كلام الله؛ وهو أفضل من كل شيء؛ وذكر الركوع والسجود هو التسبيح؛ وهو أقل حرمة من القرآن؛ ولذلك حل الذكر للجنب دون قراءة القرآن، ويجوز مس الورقات التي فيها الذكر بغير وضوء دون مس المصحف؛ فالله -سبحانه وتعالى- حكيم: جعل لكل ركن من أركان الصلاة ميزة يختص بها؛ فالقيام اختصه بفضل ذكره؛ والركوع والسجود بفضل هيئتهما.

8. أن رزق الله شامل للمؤمن والكافر، والبر والفاجر؛ بل وللحيوانات جميعاً لقوله: {ومن كفر}. ولقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها} سورة هود(6).

9.  فضل عمارة الكعبة؛ لأن الله تعالى أمر نبيه أن يذكر هذه الحادثة؛ لقوله تعالى: { وإذ يرفع}.

10.        التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته المناسبة لما يدعو به؛ لقوله: {إنك أنت السميع العليم}.

11.   أنه ينبغي للإنسان أن يشمل ذريته في الدعاء؛ لأن الذرية الصالحة من آثار الإنسان الصالحة؛ لقوله تعالى: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك}؛ وقال إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في آية أخرى: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام}؛ فالذرية صلاحها لها شأن كبير بالنسبة للإنسان.

12.   أن الأصل في العبادات أنها توقيفية، فيحرم التعبد لله بما لم يشرعه؛ لأنهما دعَوَا الله -عز وجل- أن يريهما مناسكهما؛ فلولا أن العبادة تتوقف على ذلك لتَعبدا بدون هذا السؤال.

13.        ضرورة الناس إلى بعث الرسل؛ ولذلك دعــا إبراهيمُ وإسماعيلُ الله -سبحانه وتعالى- أن يبعث فيهم الرسول.

14.   أن رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- تتضمن ذكر آيات الله الكونية والشرعية، وتتضمن تعليم الكتاب تلاوةً ومعنىً، وتتضمن أيضاً الحكمة، وهي معرفة أسرار الشريعة، وتتضمن تزكية الخلق؛ فشريعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها تنمية للأخلاق الفاضلة، وتطهيراً لها من كل رذيلة؛ فالرسول يأمر بكل معروف وإحسان، وينهى عن كل إثم2.


1 انظر صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، رقم (1218).

 

2– راجع: " تفسير القرآن العظيم " للحافظ ابن كثير(1/…). ط: دار الحديث القاهرة. الطبعة السادسة. (1413هـ). مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة. و" جامع البيان في تأويل القرآن" لمحمد بن جرير الطبري(1/…). ط: دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان. الطبعة الأولى(1421هـ). و" الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي(2/…). الطبعة الثانية. و" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري(1/…). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ). و" تفسير ابن عثيمين". المجلد الثاني. و" فتح القدير" للشوكاني(1/….). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير الكريم المنان" لابن سعدي(1/…). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ).