فضائل عشر ذي الحجة

فضائل عشر ذي الحجة

الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

لقد خلق الله -تعالى- الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، كما قال: (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) (الذاريات56). ومن نعمة الله على عباده أن جعل لهم مواسم يضاعف فيها الأجر لعباده المؤمنين ويعطي على القليل الكثير. ومن هذه المواسم العشر الأول من شهر ذي الحجة. وسنذكر في هذا الدرس فضائل هذه العشر، وبعض أحكامها وسنورد في ذلك الآيات والأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-وأقوال أهل العلم في ذلك.

فضائل العشر:

لعل من أبرز فضائل هذه العشر أن الله -تعالى- أقسم بها، فقال: (( وليالٍ عشر)) الفجر 2. ولا يقسم الله إلا بعظيم، ومما يدل على ذلك أن الله لا يقسم إلا بأعظم المخلوقات، كالسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح، ولا يقسم إلا بأعظم الأزمان، كالفجر والعصر والضحى والليل والنهار والعشر، ولا يقسم إلا بأعظم الأمكنة كالقسم بمكة، وله أن يقسم بما شاء من خلقه، ولا يجوز لخلقه  أن يقسموا إلا به، فالقسم يدل على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله لها. قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة، كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف.1

ومن فضائلها: أن الله -تعالى- أكمل فيها الدين؛ إذ تجتمع فيها العبادات كلها، وبكمال الدين يكمل أهله، ويكمل عمله، ويكمل أجره، ويعيشون الحياة الكاملة التي يجدون فيها الوقاية من السيئات والتلذذ بالطاعات، وبكمال الدين تنتصر السنة، وتنهزم البدعة، ويقوى الإيمان، ويموت النفاق، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء لتكون نفساً مطمئنة تعبد الله كما أراد، وتقتدي بالأنبياء وتصاحب الصالحين. وقد كمل الدين حتى تركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك شقي، وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال. قال حبر من أحبار اليهود لعمر -رضي الله عنه-: آية في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)) المائدة: 3. فقال عمر: (إني أعلم متى نزلت وأين نزلت، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة). وكمال الدين يدل على خيرية الأمة وكمالها.

ومن فضائلها: أن الله أتم فيها النعمة؛ إذ تنعم الأرواح بشتى أنواع الطاعات القولية والفعلية والتعاملية، ومن تمام النعمة أن الله فتح قلوب العباد للإسلام فدخل الناس في دين الله أفواجاً، إذ كان عددهم عند تمام النعمة أكثر من مائة ألف. ومن تمام النعمة أن الله أظهر الإسلام على جميع الأديان، إذ كان في الجزيرة أديان مختلفة منها: اليهودية، والنصرانية والمجوسية والوثنية، والنفاق، فأبيدت بالإسلام، وظهر عليها الإسلام، قال الله: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً)) الفتح: 28. ومن تمام النعمة منع الكفار من دخول الحرم واختصاص المسلمين بذلك، فتوحدت صفوف المسلمين حتى أصبحوا كالجسد الواحد، ووحدوا معبودهم وتوحد دينهم وتوحدت كلمتهم، وتوحد طريقهم ويا لها من نعمة عظيمة أن ترى أهل الإيمان ظاهرين وأهل الكفر مهزومين.

ومن فضائل هذه العشر:

أن العبادات تجتمع فيها، ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال؛ ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحول فيها، وفيها الصوم لمن أراد التطوع، أو لم يجد الهدي، وفيها الحج إلى بيت الله الحرام، ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء الذي يدل على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها .

ومن فضائلها:

أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، دقائقها وأيامها وساعاتها، فهي أحب الأيام إلى الله، فهي موسم عظيم للربح، وهي طريق للنجاة، وهي ميدان السبق إلى الخيرات لقول رسول الله من حديث ابن عباس: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله –تعالى- من هذه الأيام) (يعني العشر). قالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء). رواه البخاري.2

وهذا يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس. وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما، والعودة بهما أو بأحدهما؛ لأنه لا يفضل العمل فيها إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال، وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال: كان العشر كقدر غزوة في سبيل الله يصام نهارها، ويحرس ليلها إلا أن يختص امرؤ بالشهادة.

قال ابن رجب -رحمه الله-: وقد دل الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده. وقد ورد هذا الحديث بلفظ: ما من أيام العمل فيها أفضل من أيام العشر. وإذا كان العمل في أيام العشر أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة كلها، صار العمل فيه وإن كان مفضولاً أفضل من العمل في غيره، وإن كان فاضلاً؛ ولهذا قالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، ثم استثنى جهاداً واحداً وهو أفضل الجهاد فإنه سئل: أي الجهاد أفضل؟ قال: ( من عقر جواده وأهريق دمه)3.

فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في العشر، وأما بقية أنواع الجهاد فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله -عز وجل- منها. وكذلك سائر الأعمال. وهذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد لمضاعفة ثوابه وأجره.

قال ابن رجب: وقد ورد في قدر المضاعفة روايات متعددة مختلفة، ثم بدأ يسوق الروايات وقال: فخرَّج الترمذي وابن ماجه من رواية النماس بن قمهم عن قتادة عن ابن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بسنة، وكل ليلة منها بقيام ليلة القدر). والنماس بن قهم ضعفوه. وذكر روايات متعددة إلى أن قال: وفي المضاعفة أحاديث أخر مرفوعة، فلذلك أعرضنا عنها وعما أشبهها من الموضوعات في فضائل العشر وهي كثيرة.4

قال: وكان ابن سيرين يكره أن يقال: صام العشر؛ لأنه يوهم دخول يوم النحر فيه، وإنما يقال: صام التسع، ولكن الصيام إذا أضيف إلى العشر فالمراد صيام ما يجوز صومه منه. ولو نذر صيام العشر فينبغي أن ينصرف إلى التسع أيضاً فلا يلزم بفطر يوم النحر قضاء ولا كفارة، فإنه غلب استعماله عرفاً في التسع. ويحتمل أن يخرج في لزوم القضاء والكفارة خلاف، فإن أحمد قال فيمن نذر صوم شوال فأفطر يوم الفطر وصام باقيه: أنه يلزمه قضاء يوم وكفارة. وقال القاضي أبو يعلى: هذا إذا نوى صوم جميعه، فأما إن أطلق لم يلزمه شيء؛ لأن يوم الفطر مستثنى شرعاً.. وأما قيام ليالي العشر فمستحب. وقد ورد في خصوص إحياء ليلتي العيدين أحاديث لا تصح. وكان سعيد بن جبير وهو الذي روى هذا الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه. وروي عنه أنه قال: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر، تعجبه العبادة. وأما استحباب الإكثار من الذكر فيها فقد دل عليه قول الله -عز وجل-: (ويذكروا اسم في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)) فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء. وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من أيام أعظم ولا أحب إليه العمل فيهن عند الله من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد). فإن قيل: فإذا كان العمل في أيام العشر أفضل من العمل في غيرها، وإن كان ذلك العمل أفضل في نفسه مما عمل في العشر لفضيلة العشر في نفسه، فيصير العمل المفضول فيه فاضلاً حتى يفضل على الجهاد الذي هو أفضل الأعمال كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة، وهو قول الإمام أحمد وغيره من العلماء فينبغي أن يكون الحج أفضل من الجهاد؛ لأن الحج مخصوص بالعشر وهو من أفضل ما عمل في العشر، أو أفضل ما عمل فيه؟ فكيف كان الجهاد أفضل من الحج؟ فإنه ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله؟ أي الأعمال أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله). قال: ثم ماذا؟ قال: (جهاد في سبيل الله). قال: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور) 5 قيل: التطوع بالجهاد أفضل من التطوع بالحج عند جمهور العلماء، وقد نص عليه الإمام أحمد وهو مروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وروي فيه أحاديث مرفوعة في أسانيدها مقال. وحديث أبي هريرة صريح في ذلك، ويمكن الجمع بينه وبين حديث ابن عباس بوجهين: أحدهما: أن حديث ابن عباس قد صرح فيه بأن جهاد من لا يرجع من نفسه وماله بشيء ويكون هو المراد من حديث أبي هريرة، ويجتمع حينئذٍ الحديثان.

والثاني: وهو الأظهر: أن العمل المفضول قد يقترن به ما يصير أفضل من الفاضل في نفسه كما تقدم.

وحينئذ فقد يقترن بالحج ما يصير به أفضل من الجهاد، وقد يتجرد عن ذلك فيكون الجهاد حينئذٍ أفضل منه. فإن كان الحج مفروضاً فهو أفضل من التطوع، وقد يتجرد عن ذلك فيكون الجهاد حينئذٍ أفضل منه، فإن كان الحج مفروضاً فهو أفضل من التطوع بالجهاد، فإن فروض الأعيان أفضل من فروض الكفايات عند جمهور العلماء. وقد روي هذا في الحج والجهاد بخصوصهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص وروي مرفوعاً من وجوه متعددة في أسانيدها لين. وقد دل على ذلك ما حكاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -عز وجل- أنه قال: (ما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه). وإن كان الحاج ليس من أهل الجهاد فحجه أفضل من جهاده كالمرأة. كما قال -عليه الصلاة والسلام- لعائشة عندما سألته عن الجهاد أفضل أو حجٌ مبرور. وفي رواية: (جهادكن الحج). وكذلك إذا استغرق العشر كلها عمل الحج وأتى به على أكمل وجوه البر من أداء الواجبات واجتناب المحرمات وانضم إلى ذلك الإحسان إلى الناس ببذل السلام وإطعام الطعام، وضم إليه كثرة ذكر الله -عز وجل-، والعج والثج وهو رفع الصوت بالتلبية وسوق  الهدي فإن هذا الحج على هذا الوجه قد يفضل على الجهاد، وإن وقع عمل الحج بجزء يسير من العشر ولم يؤت به على الوجه المطلوب فالجهاد أفضل. وقد روي عن ابن عمر وأبي موسى الأشعري ما يدل على تفضيل الحج على الجهاد وسائر الأعمال. وينبغي حمله على الحج المبرور الذي كمل بره واستوعب فعله أيام العشر، والله أعلم.6

فإن قيل: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله -عز وجل- من هذه الأيام) هل يقتضي تفضيل كل عمل وقع في شيء من أيام العشر على جميع ما يقع في غيرها. وإن طالت مدته أم لا؟ قيل: الظاهر -والله أعلم- أن المراد أن العمل في هذه الأيام العشر أفضل من عمل في عشر أيام سواها من أي شهر كان، فيكون تفضيل للعمل في كل يوم من أيام السنة غيره.

ومن فضائل العشر: أن فيها يوم عرفة الحج الأكبر وهو يوم معروف بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنوب. يباهي الله فيه ملائكته بحجيجه ويغفر الذنوب. وفيها يوم النحر كما في الحديث: ( أفضل الأيام يوم النحر) وفيه معظم أعمال النسك من رمي الجمرة، وحلق الرأس أو تقصيره، وذبح الهدي، والطواف، والسعي، وصلاة العيد، وذبح الأضحية، واجتماع المسلمين في صلاة العيد، وتهنئة بعضهم بعضاً، وفضائل العشر كثيرة.. فلا ينبغي للمسلم أن يضيع هذه الأيام، بل يستغلها في العمل الصالح من صلاة وصيام وذكر الله -تعالى- وصدقة وأمر بمعروف ونهي عن منكر وما إلى ذلك. وأخيراً لمن أراد أن يضحي لا ينبغي له أن يأخذ من شعره وظفره حتى يضحي..

والحمد لله رب العالمين.


1– تفسير ابن كثير 4/651.

2– البخاري مع الفتح برقم 919.

3 -الحديث حسن انظر السلسلة الصحيحة(2/94) برقم (552).

4– لطائف المعارف (289-290)

5– من قوله فإن قيل: فإذا كان العمل في أيام العشر… إلى قوله: ( حج مبرور)، هذا اعتراض من قائل، وما بعد تلك العبارة جواب الاعتراض.

6– لطائف المعارف ص 293.