التلبية معاني وأسرار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، أما بعد:
معشر المسلمين: لما أمر الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام بدعوة الناس إلى الحج فقال: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (27) سورة الحـج، أجاب ذلك النداء الخالد بشرٌ من مشارق الأرض ومغاربها جاءوا طلباً لمرضات الله واستجابة لندائه، جاءوا وهم يرددون شعاراً خالداً، شعاراً عظيماً يحمل في طياته معاني الطاعة والانقياد، هذا الشعار هو " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
لا إله إلا الله ما أعظمها من كلمات، ولا يخفى على عاقل ما لهذه الكلمات من أثر نفسي إيماني على قائلها، فهي ليست كلمات جوفاء يرفع الناس بها أصواتهم في الأندية والمظاهرات والمسيرات، بل هي معاني عظيمة تنبع من وجدان قلب المؤمن فتضيء بنور الإيمان واليقين ذلك الوجدان، وتهذب سلوك القائل، وتصيغ حياته كلها وفق منهج الإيمان.
وهي كلمات تنتزع الفرد من أدران الدنيا لتحلق به في جو عال من الإيمان والروحانية؛ يشعر بذلك من سمعها تخرج من قلوب صادقة، وبأصوات مرتفعة كما أمر بها صلى الله عليه وسلم، أخرج الترمذي عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا)1، يتجاوب معها الكون بأسره، يتجاوب معها الشجر والمدر والحجر، كلمات تؤثر في الجماد فيتجاوب معها الجماد طرباً لما فيها من معانٍ فكيف بقلب المؤمن التقي النقي.
أيها المؤمنون: أن "لبيك اللهم لبيك" تعني إجابة الملبي لنداء الله تعالى، فهو قاصد طاعة الله مقبل ومتوجه إليه بنفسه، متجرد عن ملابسه التي ربما عصى الله فيها، ومتجرد عن ذنوبه، يسأل الله تجريده منها، وتبديله بلباس التقوى والطاعة والمغفرة، محب له ومقيم على طاعته، فعجباً من حاج يقول "لبيك اللهم لبيك" وقصرها على الحج، فهو يلبي ولم يدع المعصية حتى وقت تلبيته، فيخرج من نفس ذاك اللسان الذي تحرك بالتلبية السباب والشتائم والغيبة والنميمة، يلبي ويأكل الربا، يلبي ويسمع الغناء، يلبي ويتابع القنوات الفاضحة، يلبي ويرتكب ما يغضب رب الأرض والسموات، فأين حال مثل هذا من معاني التلبية؟
وقول الملبي "لبيك لا شريك لك" هي إعلان بالوحدانية لله تعالى، فهو يقول: لا شريك لك في ربوبيتك ولا في إلهيتك ولا في أسمائك وصفاتك.
فيا من يدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ويا من تشركون بالله في عباداتكم، اتقوا الله، واعلموا أن ما تفعلونه من شرك محبط لحجكم، ولجميع عملكم، فوحدوه توحيداً عملياً كما وحدتموه لفظياً في تلبية الحج.
وما أعظم قول: "إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" فالحمد أعم من الشكر، لكن كلمة الحمد هنا تشمل كل الحمد فكأن الملبي يقول لك كل حمد يا الله، ومن ذا الذي يستحق الحمد غير الله؟ فما بال أقوام شغلوا بالحمد والثناء على البشر ونسوا مستحق الحمد الحقيقي؟
قال ابن القيم رحمه الله: وقد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة:
إحداها: أن قولك لبيك يتضمن إجابة داع دعاك ومناد ناداك، ولا يصح في لغة ولا عقل إجابة من لا يتكلم ولا يدعو من أجابه.
الثانية: أنها تتضمن المحبة كما تقدم، ولا يقال لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه، ولهذا قيل في معناها: أنا مواجه لك بما تحب، وأنها من قولهم امرأة لبة أي محبة لولدها.
الثالثة: أنها تتضمن التزام دوام العبودية، ولهذا قيل: هي من الإقامة أي أنا مقيم على طاعتك.
الرابعة: أنها تتضمن الخضوع والذل أي خضوعا بعد خضوع من قولهم: أنا ملب بين يديك أي خاضع ذليل.
الخامسة: أنها تتضمن الإخلاص ولهذا قيل: إنها من اللب وهو الخالص.
السادسة: أنها تتضمن الإقرار بسمع الرب تعالى إذ يستحيل أن يقول الرجل لبيك لمن لا يسمع دعاءه.
السابعة: أنها تتضمن التقرب من الله ولهذا قيل: إنها من الإلباب وهو التقرب.
الثامنة: أنها جعلت في الإحرام شعاراً لانتقال من حال إلى حال ومن منسك إلى منسك، كما جعل التكبير في الصلاة سبعاً للانتقال من ركن إلى ركن؛ ولهذا كانت السنة أن يلبي حتى يشرع في الطواف فيقطع التلبية ثم إذا سار لبى حتى يقف بعرفة فيقطعها ثم يلبي حتى يقف بمزدلفة فيقطعها ثم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة فيقطعها. فالتلبية شعار الحج والتنقل في أعمال المناسك، فالحاج كلما انتقل من ركن إلى ركن قال: لبيك اللهم لبيك، كما أن المصلي يقول في انتقاله من ركن إلى ركن: الله أكبر، فإذا حل من نسكه قطعها كما يكون سلام المصلي قاطعا لتكبيره.
التاسعة: أنها شعار لتوحيد ملة إبراهيم الذي هو روح الحج ومقصده بل روح العبادات كلها والمقصود منها، ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يدخل فيها بها.
العاشرة: أنها متضمنة لمفتاح الجنة وباب الإسلام الذي يدخل منه إليه وهو كلمة الإخلاص والشهادة لله بأنه لا شريك له.
حادية عشرة: أنها مشتملة على الحمد لله الذي هو من أحب ما يتقرب به العبد إلى الله وأول من يدعي إلى الجنة أهله وهو فاتحة الصلاة وخاتمتها.
الثانية عشرة: أنها مشتملة على الاعتراف لله بالنعمة كلها ولهذا عرفها باللام المفيدة للاستغراق أي النعم كلها لك وأنت موليها والمنعم بها.
الثالثة عشرة: أنها مشتملة على الاعتراف بأن الملك كله لله وحده فلا ملك على الحقيقة لغيره..2
فلبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
وصلى الله وسلم على خير خلقه وخاتم رسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.