أثر الحج في تزكية النفوس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
الحج مؤتمر يقام كل عام على نحو تعجز أقوى أمم العالم وأدقها تنظيماً أن تقيم مثله ولو في الدهر مرة قال تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق}1، ولا تكاد توجد جماعة من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلا وفي هذا المؤتمر من يمثلها.
وإذا علمنا أن لكل عبادة غايتها المثلى، وهدفها الأسمى؛ فإن للحج من الغايات الكريمة، والعوائد المحمودة ما لا يستطيع القلم أن يحصيه عداً، أو يستوعبه دراسة وبحثاً؛ وإنه مهما تكلم المتكلمون، وحاضر المحاضرون حول أي عبادة افترضها الله – تعالى – وأسرارها؟ ودلالاتها، والغاية التي من أجلها فرض الله هذه العبادة؛ فلن يوفوها حقها، ولن يصلوا إلا إلى اليسير منها؛ لأنه لا يعلم هذه الأمور كلها إلا ربنا – عز وجل -؛ ولكن لنقف وقفات يسيرة مما يسهله الله – تعالى – لنا، وعلى حسب أفهامنا، والله المستعان، وعليه التكلان.
من آثار الحج في تزكية النفس:
1. أن الحج فيه معنى الامتثال لله – تبارك وتعالى – حق الامتثال، والاستجابة لأداء الواجب الذي افترضه الله -تبارك وتعالى – {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}2 فاللام في قوله: {لِلَّهِ} هي التي يقال لها "لام الإيجاب والإلزام"، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف "على" فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب؛ كما إذا قال القائل: لفلان عليّ كذا، فذكر الله – سبحانه – الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه، وتعظيماً لحرمته، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصه الدليل كالصبي والعبد.
وقوله: {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} في محل جرّ على أنه بدل بعض من الناس، وبه قال أكثر النحويُّون، وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بحج، والتقدير: أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلاً، وقيل: إن {من} حرف شرط، والجزاء محذوف، أي: من استطاع إليه سبيلاً فعليه الحج.3
2. أن في الحج يعيش المؤمن أقوى درجات الإيمان؛ لأنه يمتنع عن أن يفكر في المعصية، بل أن يفكر حتى وهو ببيته ووطنه؛ ولأنه – تعالى- يقول: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}4، فقوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} أي: يَهُمّ فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار، وقوله: {بِظُلْمٍ} أي: عامداً قاصداً أنه ظلم ليس بمتأول، قال العَوْفي: عن ابن عباس – رضي الله عنه -: "{بِظُلْمٍ} هو أن تَستحلَ من الحرم ما حَرّم الله عليك من لسان، أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك، فإذا فَعَلَ ذلك فقد وجب له العذاب الأليم"، وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر إذا كان عازما عليه وإن لم يوقعه، فعن ابن مسعود- رضي الله عنه – في قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: "لو أن رَجُلا أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعَدَن أبينَ؛ أذاقه الله من العذاب الأليم"5.
3. في الحج تتحقق درجات الصبر الثلاث: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله مما يصيب الحاج من المشقة والجهد، والعنت وفقد المال، وبعد الأهل والأحباب ، وهو تدريب واقعي للمسلم على الصبر والطاعة، وآثاره تظهر في حياة المسلم الذي يؤدي هذه الفريضة.
4. الحج مدرسة للبذل والتضحية والعطاء: فهو يتعلم دروساً في البذل والتضحية، ولذا كان الحج باباً من أبواب الجهاد، أليس الحاج يترك وطنه وأهله وأحبابه؟ أليس الحاج يبذل المال قربة لله؟ أليس الحاج يجهد نفسه، ويخلع ثيابه، ويتجرد من كل شيء طاعة لله، وامتثالاً لأمره، وهذا لون من ألوان الجهاد بالمال، والجهد، والوقت.
5. في الحج تذكير بالموت ويوم المحشر: فهو يذكِّر المسلم بيوم لقاء الله، وذلك إذا تجرد الحاج من ثيابه، ولبى محرماً، ووقف بصعيد عرفات، ورأى كثرة الناس، ولباسهم واحد يشبه الأكفان، وهنا تجول الخواطر في مواقف سيتعرض لها المسلم بعد وفاته، فيدعوه ذلك للاستعداد لها، وأخذ الزاد قبل لقاء الله.
6. في الحج تعويد للمسلم احترام ما حوله من شجر وحجر… الخ، وأن يقف عند حدود الله، فلا يجوز له أن يقطع الشجر، ولا يقتل الصيد أثناء إحرامه، ولا يأخذ لقطة قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}6، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنه – أنّ النَّبِيَّ – عَلَيْهِ الصلاة والسَّلامُ – قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ حَرَّمَهُ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لا يُعَضَّدُ شَجَرُهُ، وَلا يُحْتَشُّ حَشِيشُهُ، وَلا يُرْفَعُ لُقَطَتُهُ إِلا لإِنْشَادِهَا، وَلا يُسْتَحَلُّ صَيْدُهُ))7، فالحاج يقف عن إيذاء كل شيء، وله في ذلك حدود وضوابط، فهو يقف أولاً عند الحرم فلا يفكر في إحداث شيء لأن {مَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، ويقف عند الشجر فلا يقطعه لأنه ((لا يُعَضَّدُ شَجَرُهُ، وَلا يُحْتَشُّ حَشِيشُهُ))، ويقف عند الحجر الأسود – وهو حجر – فيقبله، وهو يتذكر حديث ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: "قَبَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْحَجَرَ ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ"8 … إلخ الأمور التي يقف المسلم أمامها محترماً لها، معظماً لها؛ لأنه مأمور به شرعاً.
7. في الحج يتحقق معنى أن الأمة الإسلامية أمة واحدة: فمن خلال الحج يشعر المسلمون أنهم أمة واحدة، وهنا تسقط الشعارات الزائفة في تفريق الأمة، وجعلها أمم متناحرة، فترى موسم الحج يحقق معنى قول الله – تعالى -: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}9، فمهما تباعدت المسافات، ومهما حُكِمَ بتفريق الأمة؛ يأتي الحج ليبطل كل هذه الدعوات الزائفة.
8. الحج جهاد: فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ))10.
9. الحج يهدم ما قبله: فعن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – قال: ".. فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم – فقلت: أبسط يمينك لأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: ((ما لك يا عمرو؟)) قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: ((تشترط بماذا؟)) قلت: أن يغفر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله))…"11.
10. جزاء الحج المبرور الجنة: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ))12.
11. في الحج اقتداء بمن سبقنا: فإن الحاج حين يذهب لأداء فريضة الحج فهو يتأسى بمن كان قبله، يتأسى بالنبي – صلى الله عليه وسلم -، فعن جَابِر – رضي الله عنه – قال: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ يَقُولُ لَنَا: ((لتأخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ))"13، وفي الحج اقتداء بأبي الأنبياء إبراهيم – عليه السلام – حين أمره الله أن يؤذن في الناس بالحج {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}14، وكتب الله لمن شاء من عباده أن يلبوا هذا النداء رجالاً أو ركباناً، وفي الحج اقتداء بالصالحين، وتأسي بمن أمرنا الله أن نتأسى بهم، ونجعلهم قدوة حسنة لنا حيث قال – تعالى -: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ… إلى قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ.. }15.
هذه بعض آثار الحج في النفوس المؤمنة؛ إلا أن هذه الآثار لا تنطبق على المرء إلا إذا رجع من حجه وقد تغير سلوكه، ومعاملته؛ لأنه إذا علم قول النبي – صلى الله عليه وسلم – ((الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ))16، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ))17، فإنه أدعى وأحرى أن يكون في أشد الحرص على أن ينال هذه المرتبة العظيمة.
نسأل الله أن يتقبل منا صالح الأعمال، وأن يوفقنا إلى كل خير، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
1 سورة الحج (27-29).
2 سورة آل عمران (97).
3 فتح القدير (ج1/ص498).
4 سورة الحج (25).
5 تفسير ابن كثير (ج5/ص411).
6 سورة المائدة (95).
7 المعجم الكبير للطبراني (ج11/ص313).
8 صحيح البخاري (1494).
9 سورة المؤمنون (52).
10سنن ابن ماجه (2893)، وصحيح الترغيب والترهيب (ج2/ص3)، وقال: (حسن لغيره).
11صحيح مسلم (173).
12 صحيح البخاري (1650).
13 صحيح مسلم (2286).
14 سورة الحج (27).
15 سورة الممتحنة (4-6).
16 صحيح البخاري (1650).
17 صحيح البخاري (1424).